رسائل قصيرة مُنضبطة في إيقاعها العاطفي ذات صيف أخذ على عاتقه الاضطلاع بدور عاشق مغرور تليق به صفة الزائر الموقت. والمُصوّرة الدنماركيّة المُتحفّظة والأنيقة في عرضها المرئي لأكثر الموضوعات المُثيرة للجدل، أو أقلّه المُحمّلة بالحسيّة المُستترة والصراعات الداخليّة المينيماليّة الطلّة، ليز كاسبر بانغ، تتعامل بتفهّم مع حماستي المُفرطة.
"تنساب" بهدوء مُخمليّ مع غلياني الداخلي الذي ورثته، بطبيعة الحال عن هذا البلد "الجامح" الذي نعيشه قدرنا التراجيدي الجميل. "تُسايرني" قدر المُستطاع، مع الأخذ في الاعتبار أن كلينا ينتمي إلى عالم مُختلف تُحرّكه طقوس لا علاقة للواحدة بالأخرى.
وفي حين كان من المُفترض أن يقودني شغفي، أنا الحالمة في بيروت، إلى مُحاورة زوجها، المُمثل الدنماركي الكبير كليس بانغ الذي ينعم حالياً بلحظة عزّه ويُراقص العالميّة بثقة ساكنة تُجاور اللامبالاة، اكتشفتُ فجأة، أنني في الواقع، مفتونة بصور شريكته، ليز التي تستريح على مشاعر مُقيّدة تنتظر اللحظة المُناسبة لتُعلن عن جنونها.
فإذا بفضولي يدفعني إلى مُحاولة التعرّف إليها، ولو افتراضيّاً. وبعد القليل من البحوث عبر الإنترنت، أرسلتُ إليها رسالة صوتيّة عبر "واتس آب" بعد الحصول على رقمها الشخصي.
وكم كانت مفاجأتي كبيرة، عندما أجابتني بتهذيب لم يُفارقها لحظة خلال حواراتنا الافتراضيّة التي استمرّت أشهراً. وكانت أكثر من جاهزة لتروي لي قصّتها مع آلة التصوير، وقد أكدّت لي أن لديها أصدقاء كُثراً في بيروت الخليلة التي تعيش عواصف يتعذّر إنقاذها منها.
وأعترف أنني لم أخف عنها هوسي بأداء زوجها في الدور الرئيسي في سلسلة "دراكولا" التي شاهدتها عبر "نتفليكس" أكثر من 40 مرّة بلا ملل. وما زلتُ حتى الساعة أعيش لحظات إفتتان من الواضح أنها ليست عابرة مع قدرة كليس بانغ على تجسيد الجشع المُدمّر للحياة الأزليّة والعطش المُثير للإشمئزاز للدماء، بجماليّة حوّلت شخصيّة مصّاص الدماء الأكثر شهرة في التاريخ، إلى شخصيّة ساحرة، شاهقة في انفعالاتها، ترتدي روح الدعابة بتألّق وتجعل "الساديّة" أشبه برقصة إغواء لا تُقاوم!
كما عبّرتُ لها عن إعجابي بقصة الحُب المؤثرة التي تجمعهما منذ سنوات طويلة.
ولم تُظهر ليز كاسبر بانغ أي انزعاج لأنني لم أكظم انفعالاتي أو أدّعي الرصانة الجافة. ربما لأنها تعيش مع رجل يُعرف عنه قدرته الهائلة على تجسيد أفظع الأحاسيس البشريّة وأكثرها حقارة وقسوة وعشقاً، والتعبير عنها على الشاشة الكبيرة كما على خشبة المسرح، بلا خجل من العواطف وسيطرتها الفعليّة علينا.
يجعلها تبدو وكأنها الامتداد الطبيعي لعوالمنا الداخليّة.
ولأنها قادمة من عالم التجميل حيث تُعتبر في بلدها الأم من أبرز الأسماء في فن الماكياج، تشعر ليز كاسبر بانغ بحسب ما روت لي، برغبة كبيرة في التقرّب من الشخص الذي سيقف أمام عدستها الأنيقة قبل البدء في التصوير. ومن هذا المنطلق تُصر على وضع الماكياج على الوجه وتسريح الشعر بنفسها، لتنتقل بعدها إلى الحوارات التي تُريدها الطريقة الفضلى ليكون "زائر عدستها" أكثر من مرتاح فلا يشعر بالخجل من آلة التصوير وهيبتها التي لا ترحم.
وهي تُريد أن تُخيّم الذبذبات الإيجابيّة على أجواء التصوير، وتُصر على أن تضع الماكياج بنفسها على الوجوه، لكي "ألمس أو أحاور الشخص الآخر في المرتبة الأولى بواسطة يدي، قبل أن يقف أمام آلة التصوير الخاصة بي".
وهي في الـ18 من عمرها زارت والدتها في مدينة كايب تاون التي تقع على الساحل الجنوبي الغربي لجنوب إفريقيا، وأقامت معها طوال سنة. ولأنها كانت تعمل كعارضة أزياء في الدنمارك، أكملت مسيرتها في عالم الموضة في المدينة الساحرة ودرست فن الماكياج في الوقت عينه.
وتم إكتشاف ليز ذات التعابير الساكنة في انفعالاتها، كعارضة أزياء مُستقبلية وهي في الـ14 من عمرها. ولكنها لم تتعامل بجديّة مع هذه المهنة. كما أن والدها التي كانت تعيش معه آنذاك، لم يوافق على هذا العالم.
ولكن ليز كانت تهتم كثيراً بالماكياج وتسريحات الشعر منذ طفولتها. وتذكر أنها كانت في الرابعة من عمرها عندما "سرقت" مُستحضرات التجميل الخاصة بوالدتها ونقلتها إلى الشارع حيث راحت "تُزخرف" وجوه أولاد الحيّ. "وأعترف أنني أفسدتُ كل مستحضرات والدتي التي كانت تعمل في عالم الـShow Business".
وتعتبر نفسها أكثر من محظوظة لأنها تتنقل بسهولة بين مختلف العوالم الفنيّة، منها المسرح وأروقة الموضة وكواليس الأفلام الطويلة والأفلام الدعائية. ولكن الأكيد، "أنني لطالما عشقت المسرح لأن القدرة على التعبير فيه أكبر. وكخبيرة في التجميل، يجب أن أتمكن من إيصال تعابير وجه الممثل أو المغني للشخص الذي يجلس في آخر كُرسي في الصالة بالوضوح عينه الذي يصل إلى المُشاهد في المقاعد الأماميّة".
معرض صورها الأول يعود إلى عام 2005.
وكان زوج والدتها قد قدّم لها آلة التصوير الأولى الخاصة بها وهي في الثامنة عشرة من عمرها. وخلال زيارتها والدتها في تلك السنة في المدينة الساحرة بطبيعتها، وقعت ليز كاسبر بانغ في حُبّ كل المشاهد التي تمكنت من "أسرها" داخل إطار عدستها. وكانت مسألة واضحة أنها تستطيع أن ترى أبعد من اللحظات التي "تتفتّح" أمامها.
ليز كاسبر بانغ تعيش قصة إفتتان مع الناس. وهي تعرف جيداً أن لكل واحد منّا حكاياته وقصصه وأحاسيسه وأسراره التي غالباً ما يخفيها عن نفسه في الدرجة الأولى.
وتُريد بأي ثمن أن تأسر الانفعالات الهاربة والقصص التي تتربّص خلف الابتسامات الصغيرة والأخرى الكبيرة التي قد تخفي بحوراً من الأحزان وبعض مُدن مُزخرفة بالآلام.
تحاول جاهدة أن تأسر اللحظة الهاربة التي قد تظهر بلا استئذان بين وضعيّة وأخرى، فهي ترى فيها العاطفة الحقيقيّة. لا تزعجها الأخطاء أو الهفوات التي تحصل خلال التصوير إذ أنها ترى فيها القصة المحورية التي ستكون الحدث. الأحاسيس، لاتهرب منها ليز كاسبر بانغ على الرغم من تحفظها المهذب وأناقتها المينيماليّة. وهي تعرف جيداً، أنها هي الحدث، وهي القصة في أكثر الأحيان.
ومنذ بداياتها أرادت أن تكون صورها أشبه بالأعمال الفنيّة التي غالباً ما تكون حكراً على الأعمال الفنية "التقليديّة".
ومع مرور الوقت نجحت في الوصول إلى هدفها. وصارت اليوم من أبرز المصوّرين المُتخصصين في البورتريهات. ولكن هذا لا يلغي حبّها الزهور الحاضرة بدورها في عشرات الصور.
ولأن الضوء ينساب بفرح إلى الأستوديو الخاص بها في كوبنهاغن، غالباً ما تدعو الأصدقاء، أفراد العائلة، و"زوّار عدستها" إلى هذه الفُسحة التي حوّلتها مع الوقت ملاذها الفرح.
عشقها لزوجها أكثر من واضح (ولا أحد يلومها على ذلك!)، ولا نستغرب عندما تقول إن كليس بانغ غالباً ما يحلّ ضيفاً على أروقة آلة التصوير الخاصة بها، ولكنها تعمل معه بحرفيّة عالية. وتُريده تماماً ككل من يحالفهم الحظ في الوقوف أمام عدستها، أن يشعر بالراحة التامة، وهي تطلب منه أن يضطلع بهذا الدور أو ذاك فيما الكاميرا مُنهمكة بإطلاق أصوات الـ"تك تك" الخاصة بها.
ليز كاسبر بانغ لم تعرف أن زوجها، كليس بانغ، أنقذني من الغرق في جنون العاصمة الجريحة، ذات صيف أدمنتُ، بفضل منصّة "نتفليكس" على "تشريح" كل شاردة وواردة في أداء أقل ما يُقال عنه أنه أكبر حجماً من الحياة.
وأنني، بفضل "دراكولا"، وسخريّته الساكنة في إجرامها، والإبتسامة المُهذّبة التي تُمهّد للكوارث، تمكّنت من أن أقع مجدداً في حب حياة يبدو أنها لم تعد راغبة بنا.
وأن جُمله الشهيرة التي تأتي على شكل، "أنا ميت، ولكنني عقلاني في تصرّفاتي!" و"الموت يمنحك الحجم الحقيقي. الموت يُكملك"، أعادت إليّ حبّ الكتابة والفن في وقت تحوّلت حياتنا في هذا البلد الغريب، إلى مجرد مسألة بقاء.
ولكن الأكيد أنها تعرف جيداً أن صورها المينيماليّة في إطلالتها سحرتني. وهي مشكورة لأنها تعاملت مع حماستي المُفرطة بابتسامة صغيرة نقلتها افتراضياً من خلال كلماتها المهذبة.
شيء ما في مُبالغتي في التعبير أكدّ لها أن حماستي المُفرطة تخفي حكايات.
وليز كاسبر بانغ تعشق الحكايات.