كان لا بدّ لهذا اللقاء من أن يتم، عاجلاً أم آجلاً. وتحديداً في حيّ المتاحف في أمستردام، ليكون الحوار بين المرأة التي لُقّبت بالداهية، والرجل الذي عاش أطول انتحار، أنيقاً بصخبه الصامت وتلك المينيماليّة التي تخفي في طيّاتها مئات القُصص التي تليق بأصحاب الأقدار الشاهقة.
وكانت مسألة طبيعيّة أن تطل تلك التي قيل عنها إنها كانت قادرة على تجسيد الرجل والمرأة في كيان واحد، إلى جانب ذاك المُنكسر التي تمكّنت منه الحياة بسهولة مُهينة. وها هو الحوار المُرتقب بين صاحبة الحكمة الصامتة وصديق الشياطين الداخليّة التي رسمها لتبقى إلى جانبه وهو يعرف سلفاً أنها لن تُغادره، ينطلق في متحف فان غوغ العريق الواقع في حي المتاحف في امستردام، ويضم أكبر مجموعة لوحات ورسومات وقّعها المجنون المُنكَسر بعروق ألمه المُزمن. بالإضافة إلى 700 رسالة دوّن فيها عدم قدرته على التأقلم مع الواقع، هو الذي عاشه بقسوة تقضي على وهم الحياة.
إتيل عدنان (1925-2021) الشاعرة والرسّامة اللبنانيّة – الأميركيّة، وفنسانت ويليم فان غوغ (1853-1890)، الرسّام الهولندي الذي كان له تأثيره في حركة ما بعد الانطباعيّة وتاريخ الفن الغربي، يلتقيان من خلال معرض Colour As Language (اللون كلغة) الاستعادي الذي يضم أكثر من 80 عملاً للفنانة الراحلة إلى جانب 10 أعمال لفان غوغ الذي كان مصدر إلهام مهماً لها، هي السيّدة الهادئة بحنانها التي كانت تعرف أكثر بكثير مما كانت تبوح به.
يطل المعرض من جهة كتحيّة لإتيل التي عمل معها المتحف بشكل وثيق قبل موتها، وليستريح من جهة ثانية على ما يُشبه الحوار بين عملاقين أحدهما فهم الحياة وتغلّب عليها والآخر تغلّبت عليه بفعل فهمه لها.
ينصبّ التركيز الأساسي للمعرض على لوحات عدنان الزاهية، كما يضم أعمالها الأدبيّة وال Leporellos (الكُتيّبات التي تطل على شكل أكورديون وتُنجز من خلال طيّ مواز) وتجمع بين الشعر العربي لكبار أمثال محمود درويش ويوسف الخال وكتابات إتيل الشخصيّة والمناظر الطبيعيّة التي كانت ترسمها متوسّلة ألوانها الفرحة بهدوء. أضف إليها بُسُط الحائط المُزخرفة التي تميّزت بها عدنان ( Tapestries). وفي هذا المعرض – الحدث الذي يتوافد الناس من كل أنحاء العالم لزيارته، نجد لوحة Mount Tamalpais (1985) الشهيرة التي قدّمتها الراحلة لمتحف نقولا إبراهيم سرسق في العام 2007 وهي تُغادر هذا الصرح العريق للمرة الأولى "لتحل ضيفة" على معرض "اللون كلغة".
في اتصال مع متحف فان غوغ أكدت لنا ميلو بولين، المُلحقة الصحافيّة في المتحف، أن 9 متاحف وغاليريات عدة قدمت الأعمال على سبيل الإعارة، حتى نهاية المعرض في أيلول المُقبل، منها مركز بومبيدو ومتحف المعهد العربي في باريس، أضف إليها مجموعات خاصة.
ولأن هذا المعرض الاستعادي الضخم هو الأول لعدنان في هولندا، وضع فريق العمل كل جهده ليليق بالسيدة التي وصفتها لنا القيّمة على المعرض، ساره تاس، على أنها كانت تملك رؤى حادة جسّدتها ببساطة وبصراحة لا مجال للمُراوغة فيها.
وروت ميلو أن المُلفت بأسلوب العمل الذي توسّلته عدنان كان عدم حاجتها إلى حامل لتضع عليه قماشة الرسم، بل كانت تضع لوحاتها على الطاولة بطريقة مُسطّحة، والسبب بحسب ما شرحت إتيل يعود إلى كونها انطلقت في حياتها المهنيّة ككاتبة، ولاحقاً عندما اختارت الرسم وسيلة ثانية للتعبير، تعاملت مع اللوحة وكأنها ورقة أو دفتر تكتب عليه.
وكانت الراحلة تُردد أن فان غوغ ألهمها بفعل تعامله مع اللون وكأنه وسيلة مباشرة للتعبير، فهو بحسب قولها حرّر اللون، واعترف به كحقيقة مُطلقة. وهي وجدت في اللون والفنون البصريّة عموماً، بفعل جذورها المُتشعّبة، لغة عالميّة، متوسّلة بحسب ميلو، "الألوان والخطوط عوض الكلمات".
وكانت إتيل الطفلة الوحيدة لأب مُسلم من سوريا، يُتقن التركية، وأم كاثوليكيّة من اليونان. وُلدت في بيروت، وتحدثت اليونانيّة مع والدتها والتركية مع والدها، والفرنسيّة في المدرسة على اعتبار أن البلد كان تحت الانتداب الفرنسي في تلك الفترة. وبطبيعة الحال، كانت اللغة العربيّة المحكيّة في الشوارع، أقرب إلى الموسيقى في أذن الشابة التي إمتلكت حكمة يُقال إنها كانت أكبر من عمرها.
ولأنها خلال نشأتها في بيروت، لم يكن في إمكانها الوصول إلى المتاحف، غالباً ما كانت بحسب ميلو، تتعامل مع السجاد الفارسي وكأنه "عالمي الفني أنا ووالدي آنذاك". ووجدت في فن النسيج الأناقة عينها التي تكمن في الفن التقليدي. وُولد لاحقاً عشقها لنسج بساط الجدران المُزخرفة. "3 من هذه الأعمال تُعرض في اللون كلغة"، بحسب ميلو.
أما في ما يتعلّق بالـ Leporellos، فهي دفاتر مصنوعة من الورق الياباني، وتحوّلت مع الوقت، الوسيط الذي إستعانت به عدنان لتكتب وترسم عليه، ولتمزج عليه بين الصور واللغة. واللافت أن فان غوغ، الرجل الوحيد الذي عاش أطول انتحار كتب في إحدى الرسائل التي وجهها لشقيقه ثيو، أنه مُعجب إلى حد كبير بالليبوريلوس التي وصفها بدفاتر الرسم اليابانيّة، "ولهذا السبب، نعرض الرسالة إلى جانب دفاتر عدنان المطويّة على شكل أكورديون".
40 لوحة لعدنان تقف جنباً إلى جنب مع بعض لوحات لفان غوغ نذكر منها "حقل القمح" (1888) في الطابق الأول في الجناح المُخصص للمعارض في المتحف.
هو بكل تأكيد حوار غير تقليدي، وغير مُباشر، بين داهية كانت تعرف جيداً لمن تُعطي نفسها كاملة ولمن تُقدّم صمتها المهذب والحاذق، ورجل صعب المراس، مُتقلّب، نزواني، "ما كان يعجبو العجب".
- الصور مأخوذة من متحف فان غوغ والبعض منها تقدمة من غاليري لولونغ (باريس – نيويورك ومعهد العالم العربي في باريس (تقدمة من كلود وفرانس لوماند).
- بورتريه الراحلة عدنان تصوير فابريس جيبير وتقدمة من غاليري لولونغ (2016)