النهار

قصة القاضي المطلوب لدى أقوى العصابات الإيطالية... "غالباً ما أتحدث إلى الموت"
المصدر: bbc
قصة القاضي المطلوب لدى أقوى العصابات الإيطالية... "غالباً ما أتحدث إلى الموت"
القاضي نيكولا غراتيري.
A+   A-
نشرت الـBBC تقريراً لأكثر لقاء أهمية أجري مع القاضي نيكولا غراتيري المدعي العام الذي يقود مكافحة الجريمة المنظمة في البلاد، والهدف الأول لأكثر عصابات المافيا شهرة في إيطاليا.
 
بحسب التقرير، يعيش غارتيري في خطر دائم لدرجة أن المعرفة المسبقة بخط سيره تتركه مكشوفاً أمام الأخطار. فهو الرجل المدرج في قائمة قتل ندرانغيتا، أقوى مافيا في إيطاليا، وكرَس حياته المهنية بأكملها لمواجهة المجموعة.
 
ويضيف المراسل في التقرير: "صدرت لنا تعليمات بانتظاره خارج المحكمة في منطقة كالابريا الجنوبية حيث يشرف على أكبر محاكمة من نوعها منذ الثمانينيات من القرن الماضي. أدلى حتى الآن أكثر من 330 مشتبها بشهاداتهم هناك وأدين 70 منهم بالفعل. فجأة اقتحم غراتيري المكان، محاطاً بخمس سيارات شرطة. وقرر نقلنا إلى مكتبه على بعد 40 دقيقة. صعدنا إلى سيارته المضادة للرصاص، في أخطر رحلة في إيطاليا".
 
يتذكر قائلا: "أعيش في ظل هذا المستوى من الاحتياطات الأمنية منذ عام 1989، عندما تم إطلاق النار على منزل خطيبتي، واتصل بها شخص ما هاتفيا في الليل ليخبرها أنها تتزوج من رجل ميت، تم تشديد الإجراءات الأمنية المحيطة بي لتصل الى هذا المستوى الخانق من السيطرة".
 
 
لا يوجد بديل في ضوء ما حدث قبل 30 عاماً. في عام 1992، تم اغتيال المدعي العام جيوفاني فالكوني بقنبلة زرعت في طريق سريع بالقرب من باليرمو من قبل المافيا الصقلية، كوزا نوسترا. وقد أدى التفجير إلى مقتله هو وزوجته و3 من ضباط الشرطة، واغتيل زميله باولو بورسيلينو بعد شهرين في انفجار سيارة مفخخة.
 
وحتى الآن ينظر الإيطاليون إلى جرائم القتل وصور الدمار التي خلّفها التفجير على طريق سريع في موقع اغتيال فالكوني على أنها لحظة فاصلة في تاريخهم الحديث. ويتم تبجيل القضاة لبطولتهم فيما وحشية الجرائم تظل رمزاً قوياً لقدرة المافيا على الإرهاب.
 
يخبر غراتيري أنه يفكر في القضاة المقتولين في كثير من الأحيان، وكيف كانوا أيضاً أهدافاً متحركة أثناء قيادتهم لسياراتهم عبر جزء آخر من البلاد التي تتغلغل فيها الجريمة المنظمة. ويقول: "غالبا ما أتحدث إلى الموت، لأنه يتعين عليك عقلنة الخوف من أجل المضي قدماً، وإلا ما استطعت القيام بهذه المهمة".
 
 
نسرع عبر منطقة تلال كالابريا الوعرة والخصبة في جنوب إيطاليا حيث معقل ندرانغيتا منذ نشأتها في القرن التاسع عشر. الصلات العائلية تشكل العمود الفقري لهذه العصابة الدموية، التي كانت تسيطر تقليديا على قرى أعالي الجبال، وولاء أعضاء هذه العصابة لبعضهم مبني على روابط الدم.
في حين أن مافيا "كوزا نوسترا" في صقلية وكامورا حول نابولي معروفتان بشكل أفضل على المستوى الدولي، جزئيا بسبب التفجيرات التي كانتا وراءها، فقد تم إضعاف كلتاهما من خلال حملة الشرطة التي لا هوادة فيها. نتيجة لذلك، حلت ندرانغيتا مكانهما وأصبحت الآن أقوى عصابات المافيا في إيطاليا، ولها فروع في جميع أنحاء العالم، من أميركا الجنوبية إلى أستراليا، ويقدر حجم عملياتها السنوية بحوالي 60 مليار دولار.
والكوكايين هو محور نشاط هذه المافيا وهي تهيمن على السوق العالمية للكوكايين ويُعتقد الآن أنها تسيطر على ما يصل إلى 80 في المئة من تجارة هذا المخدر في أوروبا.
 
ويمرّ معظم الكوكايين عبر غويا تاورو، ميناء الحاويات الأكثر ازدحاما في إيطاليا، وهو منشأة ضخمة في جنوب كالابريا. جزء بسيط من الكوكايين مخصص للسوق الإيطالية، والباقي يمر شرقاً إلى البلقان والبحر الأسود.
 
ويمثل الكوكايين الذي ضبطته الشرطة في ميناء غويا تاورو على مدار العامين الماضيين أكثر من نصف ما ضبطوه من شحنات خلال العقدين الماضيين. قد تكون عمليات ندرانغيتا آخذة في الازدياد، ولكن أيضا تزداد معرفة الشرطة بها حيث تتعاون القوات عبر الحدود.
 
وفي عام 2019، أسفرت عملية دولية ضخمة قام بها رجال أمن في إيطاليا وألمانيا وسويسرا وبلغاريا عن اعتقال 335 مشتبها بهم، من بينهم محامون ومحاسبون ونائب سابق في البرلمان. كانوا جميعًا جزءا من عائلة مانكوسو أو مرتبطون بها، وهي واحدة من 150 عائلة لا تعرف الرحمة وتشكل مافيا ندرانغيتا.
 
في أعقاب ذلك، تلقت الجماعة أكبر ضربة في تاريخها حيث تجري ما تسمى بـ "محاكمة ماكسي" في كالابريا منذ عامين. تم تحويل مركز اتصال في ضواحي لاميزيا تيرمي إلى قاعة كبيرة تكفي لحوالي 600 محام و 900 شاهد، العديد منهم يشهدون عبر الفيديو. وتشمل التهم القتل والابتزاز والاتجار بالمخدرات. وقد حُكم بالفعل على أكثر من 70 متهماً.
 
أثناء اقتيادنا إلى مكتبه، مع فريق الحماية الخاص به دائما، يقول القاضي: "إن الاعتقالات حرمت ندرانغيتا من 70 في المئة من سيطرتها في فيبو فالنتيا، وهي إحدى المقاطعات التي تعتبر معقلا لها.
 
لقد كرس حياته، بل وضحى بها، من أجل هذا الكفاح. ويضيف: "ليست لدي حياة، للذهاب إلى المقهى، علينا التوقف ومناقشة الأمر مع فريق الحماية الخاص بي، يدخل شخص ما للدفع ثم ندخل ونشرب القهوة. علينا أن نتوقف ونناقش مكان استخدام الحمام. لم أذهب إلى سينما أو مطعم منذ 25 عاما. يأتي حلاقي إلى المكتب عندما أحتاج إلى قصة شعر، ونادرا ما أرى عائلتي، ولكن داخل رأسي، أنا رجل حر".
 
وعما إذا كان الأمر يستحق ذلن يجيب قائلا: "الأمر يستحق كل هذا العناء إذا كنت تؤمن به، وأنا أؤمن به، أعتقد أنني أفعل شيئاً مهماً. هناك الآلاف من الناس الذين يعلقون كل آمالهم علي ويعتبرونني الملاذ الأخير لهم، والأمل الأخير في التغيير، ولا يمكنني أن أخيّب آمالهم".
 
شاهد من أهل بيته
لويغي بونافينتورا، أحد الشهود في محاكمة مانكوسو، وهو ممن انقلبوا على المافيا. وتقدم شهادته رؤية نادرة لداخل عالم المافيا وكيف يتلقى الأعضاء تدريبهم العقائدي.
يقول: "إن ندرانغيتا قبيلة، وإذا ولدت في تلك العائلة أثناء حربها، فلا يمكنك فعل أي شيء سوى أن تكبر مع التحريض على الكراهية والعنف، لقد كانت الكلمات التي تكررت على الدوام هي نفسها: اقتل، اقتل، اقتل".
يتذكر نشأته "كطفل مقاتل"، تسلم مسدسا وعمره 10 سنوات ولعب بأسلحة حقيقية كما لو كانت لُعبا. بعد أن تدرب على ما يسميه "قتل الخلايا النائمة"، تم استدعاؤه للقتال وهو في التاسعة عشرة من عمره عندما دخلت أسرته في حرب مع عائلة أخرى. ويضيف: "لقد تورطت في 5 جرائم قتل، ثلاثة شاهدتها، ونفذت اثنتين". ويدعي أن تعاونه أدى إلى إدانة أو اعتقال أكثر من 500 من المشتبه بهم في ندرانغيتا.
ويتابع: "إن ندرانغيتا ليست لها رأس واحد، إنها ليست مثل كوزا نوسترا في صقلية، عندما يسقط الرأس يأخذ معه كل شيء، إن ندرانغيتا مثل وحش هيدرا متعددة الرؤوس فإذا تم قطع أحدها، فهناك العديد من الرؤوس الأخرى. إنها مسألة وقت، ربما 10 سنوات، لكن عشيرة مانكوسو ستعيد تجميع صفوفها، وستعود أقوى".
 
تلال كالابريا
 
التثقيف ضد المافيا
على الأرض في كالابريا، تعمل الجمعيات المناهضة للمافيا على تثقيف الجيل المقبل وضمان إبعاد الشباب الإيطالي عن براثن الجريمة المنظمة.
ومع ذلك، فإن أذرع المافيا طويلة جدا، وتغلغها في المجتمع الإيطالي عميق جدا، لدرجة أن نيكولا غراتيري يخبر أن إيطاليا لن تتحرر أبدا من قبضتها، يمكن إضعافها كثيرا، لكن الأمر يتطلب ثورة لمحاربتها، ما زلنا بحاجة إلى نظام أقوى، وقبل كل شيء، نحتاج إلى الاستثمار في التعليم والثقافة".
 
ورداً على سؤال أنه في هذه المعركة الدائرة حول روح إيطاليا، من هو الفائز: المافيا أم الدولة؟ يضحك قائلا: "إن النتيجة هي التعادل. للفوز، نحتاج إلى تغيير قواعد اللعبة، مع نظام سجن قوي بما يكفي لثني المجرمين عن طريق الجريمة".
 
شخصية غراتيري
يُعد غراتيري بطلاً لدى الكثيرين، وعدواً للبعض، وهو يبدو بطريقة ما شخصية منعزلة، غير خائف من خوض المعارك، فهل يشعر هذا الرجل البالغ من العمر 64 عاما بالندم؟ يجيب: "لا، ربما كان بإمكاني فعل المزيد، حتى لو لم يكن ذلك ممكنا كإنسان. لقد قمت بأفضل عمل في العالم، وسأواصل العمل لأطول فترة ممكنة".
 
ويضيف: "كل شيء في الحياة له ثمن. لكي أعيش حياة طبيعية، كان علي أن أبطأ. ربما كان علي أن أعمل أقل، لكني شعرت أن ذلك يجعلني شخصاً جباناً. والحياة كجبان لا معنى لها بالنسبة لي".
 
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium