فادي نيكولاس نصار
بعد مرور ثلاث سنوات على اندلاع الأزمة الحادة التي تضرب لبنان، والتي لم تجد طريقها إلى الحلّ بعد، يفقد البلد حبل النجاة الوحيد المتبقي له، أي شبابه، الذين وصلوا إلى نقطة الانهيار. فقد أجرى المركز اللبناني للدراسات دراسة استقصائية في نيسان ٢٠٢٢ شملت ٥٠٠ شاب وشابة تتراوح أعمارهم بين ٢١ و٢٩ عامًا في دائرة بيروت الأولى ودائرة بيروت الثانية الانتخابيّتَيْن بهدف تحديد الأولويات والشواغل الأساسية في المرحلة التي تسبق الانتخابات النيابية. ومع أنّ هذه الدراسة النوذجية اقتصرت على بيروت، تدقّ نتائجها ناقوس الخطر وتكشف النقاب عن مواطن الضعف المتزايدة والشعور بالعزلة لدى جيل الشباب الذي لا يقوى لبنان على فقدانه.
وقد أظهرت الدراسة نمطَيْن أساسيَّيْن.
1) الأزمة الاقتصادية تطغى على أيّ همّ آخر
يُشار أولًا إلى أنّ الشباب المقيمين في العاصمة بيروت تأثّروا بشدّة بالأزمة الحالية وباتوا مستضعفين إلى حدّ بعيد. فمعظم الأشخاص المستجوبين اضطرّوا إلى الحدّ من استهلاكهم الغذائي (٥٥.٤٪)، في حين قلّصت نسبة أكبر من استهلاك الحاجيّات الأساسية كالإنارة والتدفئة والمياه (٦٤.٢٪)، كما وامتنعوا عن شراء الملابس الضرورية (٦٥٪) خلال الأشهر الستّة الأخيرة (أو أجّلوا شراءها). كذلك، أفاد عدد صادم من المستوجبين، بلغت نسبتهم ٥٨.٢٪، بأنهم لم يشغلوا وظيفة خلال الأشهر الـ١٢ الأخيرة.
تعكس هذه البيانات معدلات البطالة المرتفعة لدى الشباب على المستوى الوطني نتيجة الانهيار الاقتصادي. فبحسب تقديرات البنك الدولي، تضاعف معدّل البطالة لدى الشباب تقريبًا، إذ ارتفع من ٢٣٪ قبل الأزمة إلى ٤٠٪، وهي نسبة تنبئ بالخطر. وعليه، تطغى الأعباء الاقتصادية الملقاة على كاهل الشباب على أيّ من أولوياتهم وهمومهم الأخرى. فبحسب المستجوبين، تتمثل القضايا الاقتصادية الثلاث الأساسية التي ينبغي على الحكومة أن تعطيها الأولوية في: البطالة المتزايدة (٢٣.٥٪)، وانخفاض قيمة العملة (٢٢٪)، والخدمات الأساسية (١٥.٤٪).
وفي حين أنّ إجابات الشباب في دائرة بيروت الأولى ودائرة بيروت الثانية أتت متشابهة بشكل عام، لاحظنا اختلافًا لافتًا في ترتيبهم للمشاكل الأساسية التي تواجه لبنان. فالمشاكل الثلاث الأولى بحسب الشباب في دائرة بيروت الأولى تمثلت في الانهيار الاقتصادي، والتحدّيات المرتبطة بالسيادة، وغياب المساءلة. وقد اختلف هذا الترتيب بعض الشيء في دائرة بيروت الثانية، حيث اعتبر المستجوبون أنّ المشاكل الثلاث الأولى التي تواجه البلد هي الانهيار الاقتصادي، والخدمات السيئة، وغياب المساءلة.
تُظهر الشواغل المشتركة المتمثلة في الانهيار الاقتصادي وغياب المساءلة الأهمية التي يوليها الشباب عمومًا لا لتداعيات الأزمة الاقتصادية فحسب، بل أيضًا لمسبّباتها الأساسية والجهات المسؤولة عنها. بعبارة أخرى، يبدو أنّ تحقيق العدالة في الانهيار (والعدالة لضحاياه أيضًا) شرط أساسي للتعافي بحسب المستجوبين.
في المقابل، يبدو أنّ دور "السيادة" (وتحدّياتها) ضمن هذه المعادلة لا يحظى بالكثير من الإجماع. وفي حين أنّ العيّنة المعتمدة صغيرة ومحدودة جدًا، بحيث لا يمكن استخلاص استنتاجات واسعة منها، يدلّ هذا الاختلاف في الآراء على نقاش طويل الأمد في لبنان حول دور السيادة – وأولئك المسؤولين عن تقويضها – عند تقييم الأزمة الاقتصادية اللبنانية ومحاولة إيجاد حلول لها.
في سياق آخر، قد يشكّل إعطاء قدر أعلى من الأولوية إلى الخدمات السيئة مؤشرًا على ازدياد انعدام المساواة في بيروت (وفي لبنان عمومًا)، وخصوصًا في الأحياء الفقيرة، وعلى التردّي المتفاقم في الخدمات العامة وعدم تكافؤها وتدهور البنى التحتية. ويمكن تكوين فهم أعمق حول هذه المسألة عبر إجراء دراسات جديدة تركّز على أحياء معيّنة ومدى وصولها إلى الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والمياه.
2) "لا ثقة!"
يتمثّل النمط الثاني اللافت في تضاؤل ثقة الشباب في الحكومة اللبنانية وفي النظام السياسي والاقتصادي لبلدهم. فلدى سؤالهم عن رأيهم في كيفية تعامل الحكومة مع اثنَيْن من أخطر الأزمات في لبنان – أي الأزمة الاقتصادية المستمرّة وكيفية التعامل مع انفجار مرفأ بيروت – عبّر معظم المستجوبين عن مستويات عالية من عدم الرضا. وينسحب غياب الثقة الواسع النطاق على أي حكومة جديدة أيضًا، إذ عبّرت غالبية المستجوبين عن عدم ثقتها في حكومة جديدة (٥٥٪)، في حين أشارت أقلّية ضئيلة جدًا (٣.٤٪) إلى أنها تثق تمامًا بقدرة حكومة جديدة على حلّ الأزمة.
ويبدو أنّ اقتران السياق الحالي المليء بالتحديات مع ثقة الشباب شبه المعدومة في قدرة الحكومة على قيادة البلاد نحو مرحلة من التعافي المستدام والعادل يشكّل مسبّبًا أساسيًا لمشاعر اليأس والعزلة لدى الشباب. بالتالي، لم يعبّر سوى ١٥٪ إلى ١٦٪ من الشباب المستجوبين عن عدم رغبتهم في الهجرة الدائمة من البلد، في حين عزا المستجوبون الآخرون السبب الأساسي لسعيهم إلى الهجرة الدائمة إلى عوامل اقتصادية وسياسية (أو عوامل اقتصادية فحسب).
ويدلّ الارتفاع الحاد في معدلات الهجرة والرغبة في الهجرة الدائمة إلى أزمة ثقة عميقة في العقد الاجتماعي في لبنان. ولتبسيط الأمور، يمكن طرح السؤال التالي: هل هذه الهجرة الجماعية نتيجة لقلّة الفرص الاقتصادية، أو تزايد المحن والصعوبات، أو فقدان الثقة في قدرة البلد على ضمان الشروط الأساسية للأمن البشري؟
بعد إجراء تحليل كمّي مقارن لرغبة الشباب في الهجرة الدائمة وتصوّراتهم المتعلّقة بانعدام الأمن الشخصي وثقتهم في الحكومة الجديدة، لاحظنا صلة بين عدم الشعور بالأمان للاقتراع والرغبة في الهجرة الدائمة، وكذلك صلة بين عدم الثقة في قدرة الحكومة على معالجة الأزمة والرغبة في الهجرة الدائمة.
ومع أنّ هذه المسألة قد تبدو بديهية، تدفعنا هاتان الصلتان إلى النظر إلى هجرة الشباب ضمن إطار فشل الدولة والتغريب المنهجي. فالشباب في لبنان لا يغادرون بلدهم أو يتطلّعون إلى الهجرة بكلّ بساطة، بل هُم يُجبرون على ذلك. ومع تراجع فرص الهجرة عبر القنوات الرسمية، خصوصًا بالنسبة إلى الفئات الأكثر ضعفًا، سوف تصبح أنماط الهجرة غير الشرعية قنوات أساسية للخروج من لبنان.
بات الشباب في بيروت وفي لبنان عمومًا على شفير اليأس التام. وتطرح البيانات التي توصّلت إليها هذه الدراسة الاستقصائية تساؤلات عدّة، كما تدحض بصورة مباشرة أيّ محاولة لتأطير الانهيار في لبنان على أنّه وضع راهن "يمكن إدارته". وبعد ثلاث سنوات منذ اندلاع الأزمة المطوّلة في البلد، باتت الحقيقة واضحة كعين الشمس: ليس الشباب من يخذلون لبنان، بل إنّ بلدهم هو من يخذلهم، وفرص النجاة تنفذ يومًا بعد يوم.