بعد أن زاد القطاع الخاص رواتبه ومساعداته لموظّفيه، وبعد معاناة موظفي القطاع العام لثلاث سنوات برواتب لم ترتفع مع انهيار سعر الليرة، وافق مجلس النواب على زيادة رواتب موظفي القطاع العام والعسكريين والمتقاعدين والمتعاقدين بثلاثة أضعاف، في إطار المساعدات الاجتماعية.
زيادة رواتب هؤلاء الموظفين واجب - ليس من الآن -، لكن الدولة لم تجد سوى طبع الليرة (الذي سيزيد من حدة الأزمة) لتمويل هذه الزيادة، بدلاً من إيجاد مصادر حقيقية وتطبيق الإصلاحات اللازمة لإصلاح الاقتصاد، وبالتالي تأمين إيرادات للدولة يمكن من خلالها تمويل زيادة هذه الرواتب، من دون انهيار مالي إضافي.
مبدأ زيادة الأجور هو مبدأ صحيح مع انهيار الليرة وتعديلات الرواتب في القطاع الخاص، وإن بنسبٍ متفاوتة. لكن السؤال هو، ما هي مصادر تعديلات أجور القطاع العام؟
هناك عجز في الميزانية العامة من قبل إقرار زيادة 3 أضعاف على الرواتب. وبعد إقرارها، يشرح الخبير الاقتصادي، البروفسور بيار الخوري، في حديث لـ"النهار"، "أنّنا سنشهد مشاكل إضافية، أوّلها ضبط الكتلة النقدية، بعد رفع الأجور في القطاع العام إلى 27 تريليار ليرة". فالزيادة بالأجور، التي ستُضاف على العجز، تعني حكماً زيادة في طبع النقد. إذ لا يمكن إعطاء زيادة من صاحب عمل مكسور.
وما هو أخطر من طبع العملة، برأي الخوري، يكمن في المسافة الزمنية بين إقرار هذه الزيادة وبين تقاضيها. فهي فترة ستحمل ميولاً تضخمية كبيرة، بناءً على توقعات بضخّ كتلة نقدية كبيرة في السوق، ما سينعكس مباشرة على سعر الصرف.
واقعياً، ولدى غياب المصادر الحقيقية للإنفاق على الرواتب، يؤكّد الخوري أنّ أي زيادة ستدخل البلد في حلقة مفرَغة، هي نفسها الحلقة التي مرّ بها لبنان في الثمانينيات، وهي التالية: زيادة الأجور تؤدي إلى ارتفاعِ في التضخم، يؤدّي بدوره إلى انهيار إضافي بالليرة، ما يستدعي مطالبات جديدة بزيادة الأجور، وبعد إقرار هذه الزيادة، تزيد مشكلة التضخم، ويستمرّ الارتفاع في سعر صرف الدولار.
وللزيادة على الأجور خطورة إضافية. إذ يوضح البروفسور أنّها قدرة شرائية إضافية تتوزّع على شريحة من الناس تعاني من كبت في الإنفاق لفترة طويلة. وفي بلد غير منتِج، الجنوح إلى الإنفاق من قِبل هؤلاء الموظفين سيتحوّل إلى استيراد مباشرة. بالتالي، الخطورة تكمن في أن يؤثّر ذلك على ميزان المدفوعات.
والحديث عن الزيادة على رواتب القطاع العام يحمل طابعاً اجتماعياً إنسانياً، إذ يُقدّر عدد موظّفيه 300 ألف عائلة، بمن فيهم الأساتذة والعسكريون. لذلك، يجب إيجاد السبل الصحيحة لتمويل هذه الزيادة، عبر مصادر حقيقية.
وفيما حاولت الدولة إقرار الدولار الجمركي لتمويل هذه الزيادة، لاقى الاقتراح اعتراضاً من التجار، وتراجع بذلك السعر الذي كان يُبحَث به (سعر منصة صيرفة). ومع الاستثناءات الكثيرة للسلع في ملف الدولار الجمركي، وجدت الدولة نفسها غير قادرة على تمويل رواتب القطاع العام من هذا القانون، فكيف يمكن فرض ضرائب على اقتصاد غير منتِج؟، يسأل الخوري.
وفي غياب الإصلاحات، يرى الخوري أنّ "كلّ إجراء سيكون له تداعيات سلبية". فالأساس في إصلاح الاقتصاد يهدف إلى إنتاج فوائض تنفق منها الدولة على القطاع العام وتجبي الضرائب. لذلك، أي طريقة أخرى بالإنفاق على القطاع العام، هي خاطئة في ظل اقتصاد مشلول.
وهذه الإصلاحات تحتاج إلى تنازلات من الطبقة السياسية، "لكن هذه الأخيرة تناور منذ 3 أعوام ولا تريد تقديم أي تنازل، ولا الاتفاق مع صندوق النقد، لأنّ كل الإصلاحات التي يطلبها الصندوق مصمَّمة في عمقها لانتشال القطاع العام من الاهتراء، بينما تعيش هذه الطبقة على اهتراء القطاع العام"، وفق الخوري.
أزمة الدولار لن تنتهي... وتضخّم أسرع من الزيادة على الرواتب
يتطابق حديث الخبيرة الاقتصادية الدكتورة ليال منصور، مع حديث الخوري. فكون الدولة لا تجبي الضرائب من الشعب اللبناني ولا تُدخل إيرادات ولا أرباحاً من أي مؤسسة تابعة لها، فإن تمويل هذه الزيادة في الرواتب سيكون من خلال طباعة الليرة، "فالدولة مفلسة، إلّا إذا باعت أحد أصولها وخصخصت إحدى وحداتها لإدخال إيرادات للدولة، وهذا ما لن يحصل حالياً".
فطباعة العملة تعني التضخم بالأسعار. ولو طبع المركزي فقط 1 في المئة من الليرة، هذا يجعلها تنهار أكثر. و"التضخم يرتفع أسرع من الرواتب"، بحسب حديث منصور لـ"النهار"، أي أنّه إذا ما زادت هذه الرواتب على سبيل المثال 5 في المئة، سترتفع أسعار السلع من 7 إلى 8 في المئة، ولن ترتفع بنفس نسبة زيادة الرواتب، إنّما سعر صرف الدولار سيرتفع حتماً.
نحن أمام التداعيات نفسها التي شهدناها من جراء إقرار سلسلة الرتب والرواتب. فالأزمة اللبنانية بدأت منذ ما قبل 2019، وصندوق النقد الدولي لطالما حذّر منها في لبنان، لكن ما سرّع وقضى على الاقتصاد اللبناني، هو إقرار هذه السلسلة، بحسب منصور.
وترى منصور أنّ "أزمة سعر الصرف لا نهاية لها، وقد يصل الدولار إلى الملايين" في دول كلبنان، لسبب أنّه عندما تكون الدولة عاجزة إلى هذا الحد، مع غياب أي كفاءة ورؤية فيها، جلّ ما ستقوم به هو طبع العملة. وكلّما طبعت الليرة سيرتفع الدولار. وستعتمد زيادة سنوية في رواتب القطاع العام من دون اللجوء إلى حلّ آخر، فالحل لديها هو زيادة الرواتب بتمويلها من طبع الليرة فقط. وكلّما تكرّر هذا الإجراء، انهارت الليرة أكثر، بينما يمكن تقوية القدرة الشرائية للمواطن بطرق أخرى لكن الدولة لا تتبعها. إنّما يقدّمون للناس ما يُسمى في الاقتصاد بـ"الوهم"، بحسب منصور، أي اللجوء إلى إيهام الناس بأنّ الدولة زادت رواتبهم، لكن حقيقة، هي زيادة تضخّم الأسعار وتدهور إضافي بالاقتصاد.