النهار

لبنان.. الطاقة المتجدّدة تستوجب بنية تحتيّة آمنة
A+   A-
أطلقت بلدية العباسية في جنوب لبنان مشروعاً يهدف إلى تشغيل محطات ضخّ المياه بالطاقة الشمسية، وكان ذلك كفيلاً بتأمين مياه الشرب للسكان، بعدما كادت تتوقّف المحطات بسبب انقطاع الكهرباء الناتج عن الشحّ في مادّة المازوت الضروريّة لتشغيل المولّدات التي تؤمن تغذية بديلة أثناء الانقطاع الطويل للتيّار الكهربائي. وتعتمد قرى وبلدات لبنانيّة أخرى، كما العبّاسية، على الطاقة البديلة أو المتجدّدة، ليس لتأمين الكهرباء فقط، بل لإدامة إيصال المياه إلى المنازل ومنع حدوث أزمة.
 
وتعتمد مثل هذه المبادرات، بالإضافة إلى المبادرات والقدرات الفردية، على دور البلديات في توفير الأمكنة والرُخص القانونية لتأسيس شبكات التوليد البديلة.
 
ففي بلدة العباسية، تمّ إنشاء مشروع تركيب الألواح الشمسية على أرض مقدّمة من البلدية، تبلغ مساحتها 2200 متر مربّع، وذلك بهدف إنتاج 260 كيلو فولت أمبير لتشغيل محطّتَي المياه الأساسيّتين في القرية، واللتين تؤمّنان تغذية بالمياه لـ80 في المئة من سكّانها.
 
تنحو مثل هذه المبادرة نحو حلول قد تُساهم في تخفيف أزمة الكهرباء المستعصية عن كاهل المجتمعات المحليّة، التي لم يستطع لبنان التخلّص منها منذ عقود.
 
ففي هذا البلد الصغير، يتزايد الطلب على حرق الفيول والمازوت لتأمين الكهرباء، من دون أن يصل إلى الاكتفاء من ناحية توليد الطاقة الكهربائية الأحفورية؛ الأمر الذي يُلحق أضراراً بيئيّة كبيرة بجودة الهواء والصحّة العامة، ناهيك بتوليد ثاني أكسيد الكربون. وفي ظلّ هذه الأزمة، تتّجه الأنظار إلى الطاقة المتجدّدة، وهي الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة البحرية والطاقة الكهرومائية والطاقة الحرارية الجوفية والطاقة الأحيائية. وتبدأ تكلفة تركيب وحدة طاقة شمسيّة بقوة 5 أمبير من 3 آلاف دولار في الأسواق. لكن هذه التكلفة تختلف باختلاف الموادّ الأوّليّة المستخدمة وساعات التغذية المطلوبة. وتحدّد الدولة تكلفة الـ 5 أمبير من اشتراك المولّد بـ 750 ليرة عن كلّ كيلو واط ساعة، يُضاف إليها 20 ألف ليرة باعتبارها اشتراكاً شهريّاً، لتشهد إنتاج الكهرباء عن طريق الطاقة الشمسية في لبنان لدى المصانع والشركات إقبالاً مع الانقطاع شبه التّام للكهرباء عن المناطق اللبنانية، التي وصلت ساعات التغذية فيها إلى 4 ساعات فقط يوميّاً في معظم المناطق.
 
منذ سنوات عدة، بدأت بعض المدن والقرى اللبنانية تتّجه نحوَ الاعتماد على الطاقة البديلة؛ وذلك بدعم حكوميّ وجمعيّات دوليّة غير حكومية. تنفّذ الإسكوا حالياً مشروع المبادرة الإقليمية لتعزيز تطبيقات الطاقة المتجدّدة صغيرة السعة في المناطق الريفية (REGEND)، بتمويل من الوكالة السويدية للتعاون الإنمائي الدولي (سيدا)، وهو مشروع متكامل يهدف إلى تحسين الظروف المعيشية، من خلال معالجة مشكلة فقر الطاقة وندرة المياه والتأثر بتغيّر المناخ، باستخدام تكنولوجيات الطاقة المتجدّدة صغيرة السعة المناسبة للأنشطة الإنتاجية وريادة الأعمال التنموية في المناطق الريفية العربية. من إحدى مُخرجات مشروع REGEND اختيار مناطق ريفية من حول المنطقة العربية لتنفيذ مشاريع نموذجيّة لأنظمة طاقة متجدّدة. وقد وقع الاختيار على مبنى جمعيّات تصنيع المواد الغذائية في بلدة عكّار العتيقة في محافظة عكّار، وعلى جمعية "عيش عكّار" التي تشغّل مشغل خياطة وتطريز في بلدة الشقدوف، في المحافظة نفسها.
 
ففي عكار العتيقة، تمّ تركيب نظام طاقة شمسيّة فلطاضوئيّة مربوط بالشبكة بقدرة قصوى تساوي 25 كيلو واط مع قدرة تخزين تساوي 90 كيلو واط - ساعة ونظام تسخين مياه بالطاقة الشمسية سعة 200 ليتر. أما في الشقدوف، فتمّ تركيب نظام طاقة شمسية فلطاضوئيّة مربوط بالشبكة بقدرة قصوى تساوي 10 كيلو واط ونظام تسخين مياه بالطاقة الشمسية سعة 200 ليتر. بالإضافة إلى ذلك، تم تجهيز الموقعيْن بأنظمة إنارة وآلات إنتاجية ذات فاعليّة عالية، من أجل ضمان فاعليّة أنظمة الطاقة الشمسية، كما تمّ تنظيم دورات تدريبية في مواضيع الطاقة المتجدّدة، والإدارة، والمحاسبة، والتسويق، والصناعات الغذائية لعاملات المشغل ولسكان البلدة لتطوير معلوماتهم وأنشطتهم الإنتاجية من أجل ضمان استفادتهم من أنظمة الطاقة الشمسية إلى أقصى حدّ ممكن. وبالرغم من أن الأنظمة لم يتم تدشينها بالكامل بعد، فإن عاملات التعاونيات والمشغل في عكار العتيقة والشقدوف بدأن بلمس نتائج أنظمة الطاقة الشمسية التي خففت من اعتمادهنّ على شبكة الكهرباء ومولّدات الكهرباء التي تعتمد على المازوت.
 
أثر الطاقة البديلة على البيئة والمجتمع
بحسب رئيسة قسم الطاقة في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) راضية سداوي، في تصريح لـ"النهار"، فإن ضمان حصول الجميع بتكلفة ميسورة على خدمات الطاقة الحديثة والموثوقة والمُستدامة يعتبر شرطاً أساسياً للحدّ من أوجُه عدم المساواة، وللقضاء على الفقر، وللتقدّم في مجالَي الصحة والتعليم، وللنمو الاقتصادي المستدام. وأشارت إلى أن تكنولوجيات الطاقة المتجدّدة تملك القدرة على سدّ جزء كبير من العجز الحالي في قطاع الكهرباء في لبنان، من دون أيّ تكلفة بيئيّة تُذكَر. وبالتالي، تملك القدرة على محاربة آثار تغيّر المناخ، وتحسين أمن الطاقة، ورفع مستوى المعيشة، وخلق فُرَص عمل، وتمكين الترابط بين الطاقة والمياه والغذاء.
 
على نفس القدر من الأهمية، تُتيح تكنولوجيّات الطاقة المتجدّدة بشكل عام، وفي المناطق الريفية بشكل خاص، فرصاً مختلفة لتمكين المرأة لأنها توفّر تحسينات كبيرة في نوعيّة حياة المرأة من خلال خفض التكاليف، وتوفير الوقت، والحدّ من تلوث الهواء داخل المباني، وتحسين الإضاءة، وزيادة فرص تطوير وتنمية أنشطة الترابط المدرّ للدخل في القطاعات الإنتاجية.
 
الحاجة إلى الطاقة البديلة
بحسب الإسكوا، يوجد في لبنان معامل كهرمائيّة عدّة، بُنيت منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتبلغ قدرتها القصوى 286 ميغاواط، إلاّ أنه بسبب غياب الصيانة الدوريّة المناسبة خسرت أكثر من 30% من قدرتها. أمّا على صعيد أنظمة الطاقة المتجدّدة صغيرة السعة، فيوجد في لبنان ما يوازي 56 ميغاواط من أنظمة الطاقة الشمسية اللامركزية والموزّعة على جميع الأراضي اللبنانية.
 
ومع تعاظم الأزمة الاقتصادية في لبنان منذ العام 2019، تأثر قطاع الطاقة المتجدّدة على نحو سلبي، حيث تسبّبت هذه الأزمة بتوقف جميع الحوافز المالية والمبادرات (على سبيل المثال من قِبَل مصرف لبنان، والبنك الأوروبي للاستثمار، والوكالة الفرنسية للتنمية، والاتحاد الأوروبي)، التي كانت تدعم مشاريع الطاقة المتجدّدة، كما تأجّل العمل بمشاريع طاقة الرياح التي كانت النيّة معقودة على إنشائها في محافظة عكار، والتي كانت عقودها قد أبرِمت. وأدّت الأزمة أيضاً إلى خفض القدرة الشرائيّة للمواطن اللبنانيّ، ممّا أثّر على الاستثمار في الطاقة المتجدّدة.
 
بالرغم من كل ذلك، تكمن بداية الحلّ لأزمة الكهرباء وفق الخبراء بالاعتماد على الطاقة البديلة ولو بشكل جزئيّ. وفي هذا السياق، يقول المدير العام لــ "المركز اللبناني لحفظ الطاقة" بيار خوري إنّه "باستطاعة لبنان إنتاج من 30 إلى 50 % من احتياجاته من الطاقة المتجدّدة موزّعة في كل المناطق"، مشيراً إلى أن البلاد سبق لها أن وقّعت في العام 2018 أوّل اتفاقية لشراء الطاقة من مصادر الطاقة المتجدّدة عبر شركات خاصّة، لكن الاتفاقية لا تزال حتى اليوم متعثرة لأسباب سياسيّة ومؤسساتيّة وقانونيّة وتشريعيّة. وأضاف خوري: "في العام 2019 فُتِحَت الأسعار، وكان السعر الأقلّ تكلفة في منطقة البقاع بـ 5.7 سنتات لكل ميغاواط، بينما معدّل التكلفة لدى كهرباء لبنان حاليّاً يوازي 15 سنتاً".
 
إن الطاقة البديلة وتحديداً الشمسية وطاقة الرياح، برأي الخبير ذاته، ممكن أن تشكّل بداية حلّ لأزمة الكهرباء، إذ تبلغ أسعار هذه الطاقة في العالم حاليّاً 3 سنتات، بعد أن كانت 30 سنتاً منذ 10 سنوات، ما يعني تراجع تكلفتها بنسبة 10 أضعاف، وهذه فرصة بالنسبة إلى لبنان لحلّ مشكلة الطاقة وحتى مشكلة الاقتصاد اللبناني.
 
ويستطيع لبنان الاستثمار في الطاقة الشمسية بشكل أكبر، استناداً إلى موقعه الجغرافيّ وتمتّعه بثروة شمسيّة وافرة تصل إلى 300 يوم سنوياً، كما أنه يمتاز بموارد طبيعية مثل الأنهار والوديان والطاقة الشمسية وطاقة الرياح؛ وكلّ منها له مناطقه حيث يتوافر بنسب أعلى من المناطق الأخرى. وهذه المناطق تُعتبر مناسبة لحقول توليد الطاقة البديلة النظيفة الصديقة للبيئة. وبالرغم من الحديث عن الحدّ الأقصى لاستخدام الطاقة المتجدّدة المتداول عند نسبة ١١%، فإن لبنان يمكن أن ينتج 50% من احتياجاته عن طريق الطاقة المتجدّدة، التي يمكن الحصول عليها من المساحات المختلفة، فوق سطوح المدارس والمستشفيات"، يشرح بيار خوري.
 
هل تعطيل مشاريع الطاقة البديلة مقصود؟
بحسب المستشارة في السياسات الخاصة بالطاقة لدى الحكومات والمنظمات الدولية في الشرق الأوسط جيسيكا عبيد، لم تكن الأزمة الاقتصادية وحدها هي التي عطّلت مشاريع الطاقة البديلة في لبنان. وتعتبر عبيد في حديثها لـ"النهار" أن الدولة هي من عَرقلت مشاريع الطاقة منذ العام 2013 حتى العام 2018. وقد وقعت الدولة مع 3 شركات لتأمين الطاقة البديلة، لكنّها حتى بدء الأزمة لم تكن قد نفّذت أيّ مشروع. وعن صعوبة الانتقال من الاعتماد على الطاقة الأحفورية واستبدالها بالطاقة البديلة، أكّدت عبيد أن الطاقة البديلة هي أسهل ما يمكن إنتاجه في لبنان، إذ تبلغ تكلفة إنشاء مزارع رياح أو طاقة شمسية 6 سنتات لكلّ كيلوواط، بينما تصل التكلفة على المنزل (13 أمبير) إلى 7 آلاف دولار أميركي.
 
كيف يمكن أن تصبح الطاقة المتجدّدة تنافسيّة من حيث التكاليف؟
أخذاً في الاعتبار الفوائد الاقتصادية والصحية والبيئية لاستخدام الطاقة المتجدّدة، والانخفاض المستمرّ في التكلفة المالية، تُعدّ الطاقة المتجدّدة ذات جدوى عالية جدّاً، وبخاصة تكاليفها المنخفضة (Levelized Cost of Energy - LCOE) والمنافسة لأنظمة الطاقة الأحفورية، كما أن مزج الطاقة الآمن والمستدام هو ذلك الذي يجمع بين أنظمة الطاقة المتجدّدة والأحفورية، بما يتلائم مع حيثيّات وظروف واحتياجات وموارد البلد.
 
 
 

اقرأ في النهار Premium