في ظل الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي في لبنان، وانسحاب شركة التدقيق الجنائي "ألفريز ومرسال"، أقرّ مجلس النواب قانون رفع السرية المصرفية لمدة سنة، لتسهيل التدقيق الجنائي، بما أنّ هذا القانون كان العقبة التي قدّمها المصرف المركزي أمام شركة التدقيق. القوانين في لبنان تُقَرّ لكن مسار تطبيقها ليس وردياً دائماًً. واذا كان مقدمو اقتراح القانون يرون في اقراره عاملاً ايجابية حاسماً، فان مختصين في الشأن الاقتصادي رأوا فيه بادرة ايجابية أيضاً لكنهم رسموا علامات استفهام حول العديد من التفاصيل المرتبطة بالتنفيذ.
يوضح رئيس منظمة JUSTICIA الحقوقية، الدكتور بول مرقص، أنّه "طالما رفع السرية المصرفية بات قانوناً، فله صفة الإلزام، وبالتالي قانون رفع السرية المصرفية هو ملزِم، وكانت دائماً الفئات المعنيّة بالسرية المصرفية تنتظر تعديلاً قانونياً لتعتبر أنّ هناك رفعاً للسرية المصرفية تجاه حساباتها، وسبق أن صدر قرار تشريعي لا يحمل الصفة الإلزامية التي يحملها القانون الحالي".
ويضيف مرقص في حديث لـ"النهار" أنّ "السؤال هنا، هل سيشمل القانون المؤسسات الخاصة والمصارف؟ لأنّ في التشريح الجنائي المالي نبحث عن كيف صُرفت القروض المدعومة وإذا ما صُرفت في جهة غير مخصصة لها، كما نبحث عن الهندسات المالية والتبرعات التي ذهبت إلى المؤسسات الخاصة، لذا نسأل: هل رفع السرية المصرفية شمل المؤسسات الخاصة المحميّة بالسرية المصرفية بموجب المادة 151 من قانون النقد والتسليف؟".
ويعتبر أنّ هذا القانون هو "خطوة إيجابية مهمة ولكن الصياغة غير كاملة وتحتمل التأويل لمَن يريد أن يتشدّد في تطبيق النصوص، فمثلاً يمكن لمصرف لبنان - وإن كنت لا أرجّح ذلك- أن يعتبر أنّ المؤسسات الخاصة بما فيها المصارف غير مشمولة بالتعديل القانوني"، لافتاً إلى أنّه "كان يجدر تعديل المادة 151 من قانون النقد والتسليف حسماً لأي جدل "في الماء العكر".
وبرأيه، "طالما ليس هناك إرادة سياسية عارمة، أخشى اختلاق عقبات تقنية بشكلٍ مستمر، مثل عقبة السرية المصرفية، في غياب ـ ليس الإرادة برفع السرية المصرفيةـ وإنّما الغطاء السياسي عن زبائن الجماعات السياسية في الإدارات والهيئات والمجالس والصناديق والوزارات وغيرها، فهذا أهمّ من رفع السرية المصرفية"، ويعتقد أنّ "مهلة السنة غير كافية لتنفيذ هذا التدقيق على جميع المؤسسات المذكورة".
من جهتها، ترى الدكتورة سابين الكيك، أستاذة محاضِرة في الجامعة اللبنانية وباحثة في القانون المصرفي، أنّ "التعديل الذي قضى بتعليق احكام السرية المصرفية جاء محدوداً بإطاره الزمني والموضوعي، بمعنى أن مفاعيل السرية المصرفية تعود مطبقة فور انتهاء مهلة السنة وأي تمديد اضافي يتطلب إعادة التصويت عليه من مجلس النواب، أما موضوعياً، فتعليق مفاعيل السرية المصرفية يرتبط بشروط دقيقة منها: أن يكون ضمن حالة التدقيق الجنائي المقررة من قبل الحكومة، ولغايات هذا التدقيق ولمصلحة القائمين بالتدقيق حصراً، ويسمع من ذلك أن الأمر لا يمتد إلى الأجهزة الرقابية وإلى السلطة القضائية صاحبة الصلاحية بالمحاسبة والمساءلة".
وتتابع الكيك لـ"النهار": "أما المفارقة، فإنّ التعديل تضمّن ‘شارة الى "القرار" الصادر عنه بتاريخ 27/11/2020 وكأنه أراد أن يضفي فعالية وشرعية على هذا القرار بعد كل الانتقادات الدستورية المحقة التي أثيرت حوله".
ورأى الخبير الاقتصادي باتريك مارديني، بدوره، أنّ "العقبة الأساسية أمام التدقيق الجنائي كانت السرية المصرفية، ودار الحديث لفترة عن تغيير شركة التدقيق الجنائي واستبدال شركة "ألفارز ومارسل" بشركة أخرى، لكن هذا الكلام لا معنى له لأنّ أي شركة ستتولى مهمة التدقيق الجنائي ستصطدم بموضوع السرية المصرفية، لذا رفعها اليوم يفتح المجال لتطبيق التدقيق الجنائي في لبنان".
ولفت في حديث لـ"النهار" إلى أنّ "هذا التدقيق يسمح لنا معرفة "ما لنا وما علينا"، أي كم يبلغ الاحتياطي بالدولار، وكم يبلغ احتياطي الذهب في مصرف لبنان، كما يسمح لنا التأكّد من كلّ الأمور المشكوك بأمرها، لا سيما الكشف عن خسائر المصرف المركزي والفجوة التي نعاني منها، وبالنتيجة، هذا كلّه يساعدنا على إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وفي وضعٍ مأزوم كوضع بلدنا، رفع السرية المصرفية هو خطوة بالاتجاه الصحيح".