الليرة اللبنانية (تعبيرية- نبيل اسماعيل).
رولى راشد
لا شك في أن حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي، حاولت في المرحلة الأخيرة تلقّف الوقت قبل الاستحقاق الرئاسي، في محاولة منها لإرضاء صندوق النقد الدولي، عبر تمرير سلسلة مشاريع قوانين إلى مجلس النواب، ومنها مشروع القانون الذي يرمي إلى إعادة التوازن للنظام المالي في لبنان.
جاء مفهوم التوازن المالي ضمن مفاهيم علم المالية العامة الذي يقوم بدراسة النفقات والإيرادات العامة. ولكون علم المالية العامة هو فرع من فروع علم الاقتصاد، فكلاهما يهتم بدراسة النشاط المالي والاقتصادي للدولة. إن مفهوم التوازن المالي مرتبط أشد الارتباط بالتوازن الاقتصادي.
وفي الواقع، إن التوازن المالي لا يكون مجدياً في ظل عدم التوازن الاقتصادي، ويمكن أن يكون العجز المالي المؤقت وسيلة لتحقيق التوازن الاقتصادي، وهو ما دعا إليه عالم الاقتصاد "كينز"، في نظريته العجز المنظّم؛ وطبقاً لنظريته، فإنه يتعيّن على الدولة لمعالجة حالة الركود الاقتصادي، العمل على زيادة الطلب الكلي الفعلي؛ من أجل تحقيق الإنعاش الاقتصادي عن طريق التوصّل إلى تشغيل كل الطاقات الإنتاجية للاقتصاد، أي التشغيل الكامل.
في المبدأ، يفترض أن يكون هدف قانون إعادة التوازن للنظام المالي تحديد الإطار القانوني العام لمُعالجة الفجوة المالية للنظام المصرفي في لبنان وتداعياته على المودعين وفقاً لأولوية تَضمَن حماية حقوق المودعين إلى أقصى حدّ مُمكن، سيّما الصغار منهم، كما وتُعيد الثقة بالنظام المصرفي عن طريق إعادة هيكلة المصارف خدمةً للاقتصاد الوطني، مع ما يوجبه ذلك من إعادة رسملة مصرف لبنان وإطفاء الخسائر التي تحول دون الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف في أقرب وقت مُمكن وضمن الإمكانيات المُتاحة، حالياً وتدريجياً، وفقاً لتوفّر الموارد المستقبليّة المؤاتية.
في قراءة علمية للمشروع المطروح، هناك ضبابية بشأن كيفية معالجة الخسائر وبأي عملة ستُرد الودائع!.
كما أنه شرّع للمدين، أي الدولة اللبنانية، شطب دين الدائن وهو هنا المصارف والمودعون، رغم ضرورات إشراك المصارف في المسؤولية.
من الواضح أن من وضع المشروع تغاضى عن أهم مسار فيه وهو معرفة مفصّلة وشفّافة بالأرقام والحسابات، وعلى توزيع للمسؤوليّات، التي لا تأتي أي مادة فيه على ذكرها. كالعادة، الدولة مُعفاة من أي مسؤولية وكل من تعاقب على الحكومات والوزارات المعنية
باختصار، يتضمن مشروع القانون سلسلة ثغرات فما هي؟
مرقص
يرى رئيس مؤسسة جوستيسيا الحقوقية المحامي الدكتور بول مرقص في موضوع إجراء التدقيق المحاسبي في ميزانية مصرف لبنان بهدف معالجة الفجوة المالية من خلال تخفيض قيمة توظيفات المصارف لدى المركزي بالعملات الأجنبية، أن النص جاء ليطلب إجراء "تدقيق محاسبي" لميزانية مصرف لبنان وذلك من خلال تخفيض قيمة توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، بينما فات واضعي النص أن هذا النوع من التدقيق لا يشتمل على تحديد الفجوة، وكأن لا حلّ سوى ذلك.
وحتى لو كان التدقيق المحاسبي يحدّد الفجوة، فإن هذا ليس الحلّ الوحيد لمعالجة الفجوة في الملاءة لدى مصرف لبنان. وبالتالي، لم يتم تحديد الهدف من وراء هذا التدقيق والنطاق الذي سيشمله، لاسيّما وأن الفجوة المالية في مصرف لبنان هي مسؤولية الدولة اللبنانية وليس القطاع الخاص. كما أغفلت المادة الثانية من المشروع ذكر الجهة التي ستقوم بالتدقيق والجهة الرسميّة المسؤولة عن متابعة التدقيق والإشراف على عملها، وفق مرقص.
وفي ما يتعلق بحماية حقوق المودعين عن طريق مُشاركة الدولة إلى أقصى حدّ مُمكن في استعادة الملاءة المالية لمصرف لبنان بالعملة الصعبة، وذلك عن طريق إعادة رسملة مصرف لبنان بمليارين ونصف مليار دولار أميركي من خلال سندات مالية و/أو أي وسيلة أخرى يتمّ تحديدها بموجب مراسيم تُتّخذ في مجلس الوزراء، يقول مرقص إن المليارين والنصف مليار هي "Perpetual Bonds" وورقة مالية ذات دخل ثابت ليس لها تاريخ استحقاق، ما يعني أن الدولة لا تدفعها. أي أن المشروع جاء ليقول إن الدولة ستتحّمل هذه المبالغ، ولكن في الحقيقة، حتى الدولة لن تتحّمل هذا المبلغ.
ويسأل: "كيف للدولة الممتنعة منذ آذار 2020 عن سداد سندات اليوروبوند أن تتمكن من إصدار وبيع سندات بمبلغ مليارين ونصف مليار دولار أميركي لرسملة المصرف المركزي الذي تتجاوز فجوة الخسائر فيه، ما يقارب الـ 60 مليار دولار والتي لا زالت تتزايد، فضلاً عن فشل لبنان ببدء التفاوض حول سندات اليوروبوند.
كما أنه لم يحدد آلية واضحة، ووضع خطة مدروسة لمعالجة قسم من التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف؟".
من جهة أخرى، هناك توسيع لنطاق "الودائع غير المؤهّلة" التي لن تشمل فقط السيولة المتأتية من عمليّات تحويل من الليرة إلى الدولار بعد 17 تشرين الأوّل 2019، بل ستشمل أي أموال ناتجة عن تحويلات أو شيكات أو غيرها من العمليّات والأدوات، ما يعني أن لائحة الودائع غير المؤهلة ستكون طويلة ومن غير الواضح على أي سعر صرف سيتم سدادها. وبالتالي، تصنيف الودائع لا يتم وفق معايير منطقية، وفق مرقص.
وعن إمكانيّة سداد جزء من دفعات الودائع المؤهلة بالليرة على أساس سعر منصّة صيرفة الذي سيصبح سعر السوق عند توحيد أسعار الصرف، يشير مرقص إلى "أن هذا الأمر فضلاً عن أنه خطير جداً، سيكبّد المودعين خسائر كبيرة، فهو حسم موضوع أن منصّة صيرفة هي التي ستكون المعيار لتوحيد سعر الصرف، رغم أنها لا تزال حتى اليوم مجهولة الآلية التي يتم من خلالها تحديد سعر الصرف والسند الاحتسابي الذي تقوم عليه، إضافةً إلى أن سعر الصرف المحدّد على منصّة صيرفة لا يعكس الواقع الحقيقي لليرة اللبنانية في الأسواق اللبنانية.
هناك استحداث لمصطلح لا وجود له قانوناً تحت مسمى "Lirafication" وذلك لتبرير عمليات تحويل الودائع إلى الليرة اللبنانية.
واللافت، ارتباط مشروع القانون بقانون "معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها"، علماً أن هذا القانون غير صادر بعد، ولم يطبّق، ومن غير الواضح ما إذا كان سيطبّق أو يُقرّ قريباً. كما تجب الإشارة إلى أن هناك تشابكاً وتكراراً بين مشروع قانون "إعادة هيكلة المصارف" ومشروع قانون "إعادة التوازن للنظام المالي".
ولكن ما هو مصير استرداد الودائع الذي تم ربطه بوضعية كل مصرف وفق ما ذكره المشروع؟
يوضح مرقص إن "ربط هذا الموضوع بوضعية كل مصرف وخصوصاً ملاءته وسيولته بعدما يكون قد خضع لأحكام قانون معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها، يعني أن مسألة استرجاع الودائع لا تزال بعيدة كل البعد عن الوصول إلى أي حلّ، رغم أن الهدف من مشروع القانون وفق ما نصّت عليه المادة الأولى هو مُعالجة الفجوة المالية للنظام المصرفي في لبنان وتداعياته على المودعين وفقاً لأولوية تَضمَن حماية حقوق المودعين إلى أقصى حدّ مُمكن. والسؤال: هل هذا يعني أن عدم ملاءة المصرف وتوفرّ سيولة لديه سيعفيه من إمكانية تسديد ودائع المودعين؟
عملياً، لا يوجد تمييز بين المصارف عند توزيع الخسائر بينها؛ فالنسبة التي ستتحّملها المصارف من الخسائر هي محددة مسبقاً وفقاً لرصيد كل مصرف لدى مصرف لبنان".
تمويل الصندوق
وعن الشروط الغامضة لتمويل صندوق استرجاع الودائع يسأل مرقص، "في تجاوز هذه الإيرادات معايير محدّدة مقارنةً بدول مشابهة، أي معايير يقصد بها؟
وصول الدين العام إلى أقلّ من المستوى المستهدف فما هو المستوى المستهدف ومن حدّده وفقاً لأي نسبة من الناتج المحلّي؟
وبأي قدر ستكون المحافظة على النفقات الاجتماعية وعلى إمكانية تمويل أي عجز في الموازنة من غير مصرف لبنان؟ وأي نسبة؟ وهل أن تمويل عجز الموازنة يأتي قبل تمويل الصندوق الذي يفترض أن يعالج مسألة الودائع؟
ألم يكن هدف مشروع القانون الأساسي إتمام برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي بنجاح؟".
وبرأيه "إن تفعيل الصندوق سيُثقل ميزانيّة الدولة ومن إمكانيّة النهوض والتعافي الاقتصادي السليم، نظراً إلى أنه سيخصص نسبة من إيرادات الدولة لتسديد دفعات الصندوق.
وفي عملية اقتطاع من الصندوق لجزء كبير من ودائع المودعين التي تفوق الـ100 ألف دولار أميركي ليوضع مقابلها ما يوازيها من توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان أي القيام بما يسمى”Balance Fund”، فإن “Potential Recovery Rate” في هذه العملية هو صفر وشبه معدوم، فتكون هذه العملية أشبه بـ"Haircut" مقنّع أي إعدام كل هذه المبالغ التي يتم وضعها على حدة".
ويضيف أن "أحد مصادر التمويل للصندوق تتكوّن من الأموال المسروقة والمهرّبة وغير المشروعة، أي عملياً هي مصادر غير مؤكّدة كونه لم يتمّ تحصيل أي أموال حتى اليوم ناتجة عن هذه العمليات، إلا أن مصادر التمويل الأخرى غير محدّدة النسب، وهي تسبّب خسائر عملاقة على عاتق المودعين بشكل خاص، فضلاً عن تغيير وجه لبنان الذي طالما تميّز بقطاعه المصرفي. فأين مساهمة الدولة طالما أن المودعين سيموّلون الصندوق؟!
فلم يأتِ مشروع قانون "إعادة التوازن للنظام المالي" على ذكر الصندوق السيادي للدولة، كون المشروع ركّز على إطفاء العجز في المصرف المركزي (المادة ٤) وعلى معالجة التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف (المادة ٣) كما وحماية المودعين، رغم أننا لا نعتقد أن المواد والحلول المقترحة ستؤدي إلى هذه الغاية.
أضف الى عدم ذكر الآليات والخطط والاستثمارات التي سيتم العمل عليها لإدخال ايرادات على خزينة الدولة كما يفترض بالصندوق السيادي أن يفعل، والعمل وفق ما جاء في نصوص مشروع القانون سيُثقل ميزانيّة الدولة لاسيما وأنه سيتم استعمالها لتسديد دفعات ما سمي بـ"صندوق استرجاع الودائع".
في ضوء هذه التعليقات القانونية، في الشكل، جاء النص المذكور عاماً، ومبهماً غير واضح. والخوف هو من تمرير المشروع على غفلة ضمير المشرّعين ولهاثهم إلى تقاسم الحصص، كما يرى مراقبون.