تحرير سعر الصرف بات أمراً واقعاً مع اعتماد منصّة "بلومبرغ" الجديدة للتداول، لا بل هدفاً لبلوغ توحيد سعر الصرف في الفترة اللاحقة. وقد لاقت المنصّة ترحيباً واسعاً في الأوساط المالية والمصرفية في لبنان لكونها تحظى بالشفافية والوضوح مع وجود مراقبين دوليين على حركتها. ماذا يعني تحرير سعر الصرف عملياً؟ كيف سينعكس على سعر صرف الدولار؟ وهل يؤدي اعتماد المنصة الجديدة إلى ارتفاعه؟
في الشكل، من الواضح أنّ منصة "بلومبرغ" تُعدّ نسخة أكثر تحديثاً عن منصة "صيرفة"، لكنها أكثر شمولية لناحية أنها متاحة أمام الجميع للتداول بالليرة والدولار والعملات وغيرها من الأدوات المالية، وأكثر شفافية وقادرة على مكافحة عمليات تبييض الأموال.
أمّا في المضمون، بحسب ما يوضح الأمين العام المساعد لاتحاد أسواق المال العربية الدكتور فادي قانصو، فإنّ "الهدف المبطّن" لمنصة "بلومبرغ"، يكمن في التمهيد لتحرير تدريجي في سعر الصرف وتوحيد أسعار الصرف المتعدّدة، ما بين سعر منصة "صيرفة" السابق وسعر السوق الموازية وسعر الصرف الرسمي، أكثر ممّا هو التعويل عليها كأداة لضبط سعر الصرف.
فإذا بقيت الهوامش كما هي بين سعري المنصة وسعر السوق السوداء، وهو أمر متوقَّع في المرحلة الأولى، فإنّ منصة "بلومبرغ" قد تشهد طلباً على الدولار يفوق العرض، ما يعني حركة اتجاه واحدة، أي عمليات شراء للدولار فقط، كما كانت الحال مع منصة "صيرفة". بالتالي، "فإنّ المصارف ومصرف لبنان قد تلجأ إلى ضخ الدولارات عبر المنصة لبيعها لمستخدمي المنصة، ما يعني أنّنا قد نكون أمام عمليات شراء للدولار من السوق وإعادة ضخها عبر المنصة كما هي الحال تماماً مع منصة "صيرفة"، لتوفير استقرار نقدي مصطنَع قدر المستطاع، وهو استقرار ممكن تأمينه في المدى المنظور في ظلّ الكتلة النقدية بالدولار المتوافرة في السوق بعد موسم سياحي ناشط خلال فترة الصيف.
في المقابل، من المتوقَّع أن يتبع ذلك في المرحلة الثانية وبشكل تدريجي، عملية توحيد لأسعار سعر الصرف ليعكس سعر صرف منصة "بلومبرغ" السعر الحقيقي للسوق. لكن خطوة تحرير سعر الصرف في هذه الحالة قد تحمل تداعيات قاسية على سعر الصرف، ولا سيما في ظلّ قدرة مصرف لبنان المحدودة على المناورة والتدخل للجم التفلت المحتمَل في سعر الصرف، وعدم قدرته على خلق توازن بين العرض الشحيح والطلب الكبير على الدولار، "ما يعيدنا إلى المربع الأول، أي فشل المنصة الجديدة في تحقيق أهدافها المرجوّة، كما فشلت منصة "صيرفة"، بحسب قانصو.
وصحيح أنّ تحرير سعر الصرف من الناحية النظرية هو مطلب اقتصادي لتوحيد أسعار الصرف المتعدّدة وإنهاء حالة الفوضى السائدة في سوق الصرف، لكن في الاقتصاديات المدولرة وغير المتقدمة أو غير النامية، كما هي حال لبنان، فمسألة تحرير سعر الصرف قد تكون لها تداعيات سلبية على الاقتصاد أو بالأحرى متطلبات أساسية لتفادي تداعيات عملية التعويم المرتقبة.
ويتحدّث قانصو عن صعوبة تطبيق توحيد الصرف وشروطه. فتحرير سعر الصرف يحتاج على الأقّل إلى استقرار اقتصادي، وتحديداً اقتصاد منتِج يحقق نسب نمو اقتصادية، لتحقيق بعض التوازن في النظام المالي ولضبط سعر الصرف بعد التعويم، وهو ما يفتقده لبنان اليوم في ظل انكماش حاد في الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 50 مليار دولار في عام 2019 إلى ما دون 19 مليار دولار اليوم، "فكيف إن كان باقتصاد يعاني أصلاً ليس فقط من ركود بل من ركود تضخمي؟"، بينما الدول التي حرّرت سعر صرفها هي دول متقدمة ونامية بامتياز.
كذلك يحتاج تحرير سعر الصرف إلى استقرار سياسي، إلى جانب غياب الفساد ووجود شفافية مطلَقة في السياسة الاقتصادية والمالية والنقدية وقدرة من قِبل المؤسسات المالية المرجعية على التدخل لضبطه في حال حدوث خضات سياسية أو اقتصادية، وهو ما نفتقده اليوم في بلد تكثر فيه الخضات السياسية والاقتصادية ويعاني من سوء إدارة وفساد متغلغل.
كذلك، يستحيل تحرير سعر الصرف قبل تحديد الخسائر المالية وتوزيعها ومعالجتها. فاللحظة التي سيُعتمد فيها سعر صرف عائم وموحَّد، بما يعكس قيمة الدولار الفعلية بحسب موازين العرض والطلب، ستكون لحظة انكشاف كتلة ضخمة من الخسائر المتراكمة داخل مصرف لبنان والمصارف، بعد أن يتمّ تقويم الالتزامات الضخمة للمودعين بحسب قيمة الدولار الجديد في مقابل الموجودات الضئيلة بالعملة الصعبة التي لا تتجاوز 9 مليارات دولارات.
كيف سينعكس تحرير سعر الصرف عملياً على سعر الصرف؟
تحرير سعر الصرف يشبه إلى حد ما الوضع الحالي مع منصة "صيرفة"، تقول المتخصصة في الاقتصاد النقدي الدكتورة ليال منصور في حديثها لـ"النهار".
لكن الفرق أنّه مع "صيرفة"، كان مصرف لبنان يتدخّل لدعم الليرة، لكن مع منصة "بلومبرغ" لن يتدخل مصرف لبنان بحسب ما أكّد حاكم المركزي بالإنابة، وفي هذه الحال ستظهر الليرة سعرها الحقيقي.
وفيما أكّد حاكم المركزي بالإنابة وسيم منصوري أنّه لن تكون هناك أسعار خيالية للدولار بعد المنصة الجديدة، تشير منصور إلى أنّ الشرح التقني لهذا التصريح يعني أنّ سعر الدولار لن يصل إلى أسعار دراماتيكية بقفزات كبيرة، ما لم تتليلر الودائع، لكن "الدولار سيستمر بمساره الصعودي مع الاستمرار بطبع الليرة"، إذ لم تعد هناك قيمة لليرة ولا سيما لدى وضعها على منصة تخضع لسوق العرض والطلب دون أي تدخل لدعمها، "لكن ستغيب الأسعار الخيالية عن سعر الدولار لأنّ الاتجاه أكثر وأكثر إلى الدولرة في لبنان".
وفيما يبدو أنّ إلغاء التعميم 151 وإلغاء سعر 15000 لسحوبات الودائع من المصارف، سيكون اتجاه المصرف المركزي مع منصة "بلومبرغ"، ما علاقة هذين الأمرين بتحرير سعر الصرف؟
تجيب منصور: نحن أمام سيناريوهين في هذا الإطار. الأول إذا أُلغي التعميم 151 ولم يُسمح للمودع بسحب ودائعه إلّا بالليرة على سعر المنصة الجديد، نتحدّث هنا عن ليلرة الودائع وارتفاع كبير في سعر الصرف، و"ليلرة الودائع مع اعتماد المنصة هذه يعني كارثة". فالمشكلة تقع إذا ما اعتُمد سحب الودائع على سعر الليرة وفقاً لسعر المنصة العائم، بحيث سيتغير السعر بسرعة
ما سيؤدي إلى ارتفاع كبير في سعر الدولار.
أمّا السيناريو الآخر، فهو سحب الودائع على سعر الدولار الفريش، لكن تسأل منصور هل المصارف مستعدة لهذه الخطوة، لكون الودائع بالدولار غير موجودة! لكن في هذه الحال، وإن حصل هذا الأمر، فلن يكون الوضع كارثياً.