استحوذت العملات الرقمية المشفرة على مكان فائق الأهمية في الاقتصاد العالمي في الأعوام الأخيرة الماضية، فبات الاستثمار في أسواقها هاجساً للأفراد كافة خصوصاً الفئات الشبابية. فعلى الرغم من الشكوك حيال غموض ظهورها وانتشارها التدريجي وغزوها لشبكة الإنتزنت كوسيلة للتعامل النقدي، حظيت بشعبية كبيرة لدى المستثمرين الذين حققوا أرباحاً خيالية من خلالها فيما تكبّد آخرون خسائر مفاجئة على أثر الصعود والهبوط السريع في قيمة تداولها. وإن كانت ثمة مزايا عدة للعملات الرقمية، سواء لناحية انتشارها لتغطية العالم كافة دون قيود إضافة إلى اتسامها بالسرّية وعدم ارتباطها بدولة أو منطقة معيّنة، فإنه تشوبها مخاطر عدة أهمها فقدان الحكومات القدرة على إدارة الاقتصاد أو تطبيق أدوات السياسات النقدية والمالية، فضلاً عن اعتبارها أداة لتسهيل عمليات الفساد وغسل الأموال وتمويل الإرهاب، وأيضاً مجالاً واسعاً للمضاربة.
يتوقع بعض الخبراء والمحللين الاقتصاديين توسّع تأثير العملات الرقمية على شكل الاقتصاد العالمي، وتالياً إمكان ازدياد تبعية اقتصادات الدول النامية للمتقدّمة خصوصاً لمالكي أقوى اقتصادات العالم كالولايات المتحدة الأميركية والصين. في السياق، يشير الباحث في الشؤون المالية والاقتصادية زياد ناصر الدين الى عملتين رقميتين هما الأكثر تداولاً عالمياً، الأولى هي "البيتكوين" الصينية والثانية هي "الإيثريوم" الأميركية، علماً بأن الأولى هي أقدم وأقوى وأشهر تلك العملات.
يعرّف ناصر الدين العملة الرقمية بأنها نوع من العملات المتاحة على شكل رقم دون أي وجود فعلي للشكل المادي الحقيقي، لافتاً إلى "امتلاكها خصائص كالعملات المادية بيد أنها لا تسمح بالمعاملات الفورية أو بنقل الملكية مباشرة".
تشير التبدّلات الاقتصادية الراهنة إلى أننا أمام مرحلة انتقالية من العملة الورقية إلى الرقمية، ويرى ناصر الدين أن العملة الرقمية عملة افتراضية بدأ التداول بها على أساس كونها جزءاً من الاقتصاد الرقمي. وكما بات معلوماً لدى المتعاملين بها، فإن الأرباح الهائلة الناجمة عن التداول بها تقابلها خسائر كبيرة مقارنة مع أرباح وخسائر العملات الورقية المحدودة".
صحيح أن العملة الرقمية لم تصبح بعد عملة رسمية، إذ لا تزال تُعدّ عالماً ابتدائياً في العالم المالي بيد أن التطوّر التكنولوجي الحديث يدفع معظم الشباب، ولا سيما اللبناني في التعامل والاستثمار بها. فالذكاء الاصطناعي المالي، وفق ناصر الدين، يعتمد بشكل أساسي على التسويق والبيع والشراء في هذا النوع من العملات إضافة إلى نشأة البعض منها التي تحفّز الشباب على حجز دور لهم طمعاً بالمردود المالي الكبير في المستقبل. وهذا ما حصل في "Digital Currency". فعلى سبيل المثال، بدأت "البيتكوين" بأسعار زهيدة ثم ازدادت قيمتها، فسمحت بتحقيق أرباح طائلة. ومن الأسباب التي شجعت الأفراد على زيادة التعامل في العملات الرقمية، هو حماية مدّخراتهم خشية حصول اضطرابات في العملات الورقية العالمية كالدولار واليورو.
أما في شأن التوجه الكبير للشباب اللبناني نحوها، فرأى ناصر الدين أن لبنان منصّة علمية، سبّاقة في بعض الأمور التي تحمل مستقبلاً، فضلاً عن لجوء بعضهم لتعويض خسارتهم الناجمة عن احتجاز ودائعهم في المصارف، بالإضافة إلى الجزء الذي يتعامل بها على شكل أسهم. وعلى ضوء الاستثمار المتزايد في أسواقها، لافتاً إلى "تكبّد معظم الشباب اللبناني خسائر كبيرة دون انتباههم خصوصاً أن تلك العملات لا تزال لغاية اليوم غير خاضعة لسلطات ملكية أو حكومية في ظل غياب شكلها المادي من جهة ولارتباطها فقط بالتداول على الإنترنت من جهة أخرى".
تستلزم العملات الرقمية مهارات عدة، إذ يؤكد ناصر الدين ضرورة امتلاك المهارات التكنولوجية العالية على اعتبار أن العملة الرقمية، المسجلة إلكترونياً على بطاقة ذات قيمة مخزنة أو جهاز معيّن، رصيد مالي.
أما في ما يتعلق بالخطوات اللازمة للتمكن من التداول بها، فيشير ناصر الدين إلى ضرورة حيازة الشباب رصيداً في المصرف يمكّنهم من شراء جزء من العملات الإلكترونية لكي يعيد من خلالها تداولها في السوق فينالون أخيراً المردود المالي المطلوب. لم يكن المواطن اللبناني بعيداً عن التداول في سوق العملات الرقمية، إذ يؤكد ناصر الدين أن بعض اللبنانيين، إثر ثورة 17 تشرين 2019، قاموا بتحويل جزء من أرصدتهم لشراء عملات رقمية لتعويض خسارتهم من ودائعهم المحتجزة في المصارف. لكن، في الوضع الراهن إزاء الارتفاع الجنوني للدولار، لم يعد أمام المواطن اللبناني إلا فتح رصيد مالي جديد "فريش" عبر حساب معيّن لشراء العملات الرقمية. فتحقيق الربح "فريش" يتم من خلال بيع هذه العملات، فعلى سبيل المثال، يجب عليهم رؤية سعر "البيتكوين" في السوق لدى شرائها ليتم بعدها التداول بها في المجال الرقمي تماماً كعمليات التداول في مجال الأسهم والبورصة".
كما بات معلوماً، ثمة مخاطر جمة تطال المستثمرين، فمقابل تحقيقهم أرباحاً كبيرة وبسرعة، ثمة "خسائر كبيرة في العملات الرقمية نتيجة عدم خضوعها للقوانين التنظيمية من جهة والهبوط المفاجئ في قيمتها من جهة أخرى"، يرجع ناصر الدين أسباب الصعود والهبوط المفاجئ في التداولات إلى وجود عشرات آلاف العملات الرقمية حالياً فيما كان التداول يقتصر سابقاً على العملة الصينية "البيتكوين"، لذا يشدّد على ضرورة الاعتماد على الذكاء ومتابعة الشباب لناحية رؤية مجالات استخدامها.
فهل تُستخدم العملات الرقمية ضمن تجارة اليوان أو ضمن التجارة العالمية أو الصناعية؟ أو مثلاً في مجال أسهم الدواء أو أسهم المجال الغذائي؟ لفت ناصر الدين إلى أنه أصبح لكل عملة مجال تخصّص معيّن بما ينذر بتعدّد العملات الرقمية مستقبلاً، ويستدعي تالياً متابعة دقيقة لمعرفة تلك التي يمكن الإفادة منها والاستثمار بها. مثلاً وصلت قيمة التداول في البيتكوين إلى 30 ألف دولار في الوقت الذي تم فيه شراؤها بين 10 و20 سنتاً.
بالاستناد الى الارقام التي حققتها سوق العملات الرقمية، يبدو عام 2023 ممتازاً توازياً مع استمرار انخفاض الثقة بالمصارف والمخاوف بشأن التضخم العالمي المستمر. فازدياد حجم التداول في الأسواق الرقمية عبر السنوات أمر لا شك فيه، وفق ما يقول ناصر الدين، إذ زاد بنسبة 18% عن عام 2022 في سوق كريبتو ليبلغ 2.8 تريليون دولار في الربع الأول من عام 2023. ولا تزال "البيتكوين" في سوق "كريبتو" العملة الرقمية الأولى المهيمنة بنسبة 47% على القيمة السوقية لجميع العملات الرقمية التي يفوق عددها 9000 عملة، على الرغم من التفاوت في حجم تداولها الذي وصل في بعض المراحل، إلى 17 مليار دولار في اليوم الواحد. على غرار "بيتكوين"، شهدت "إيثريوم" الأميركية، العملة الثانية الأكثر تداولاً في سوق كربيتو، نموّاً هائلاً حيث تجاوز سعرها مئات الدولارات.
في المحصلة، يبقى التداول في سوق العملات الرقمية نسبياً وتبقى عملية التوقعات في أسواقها تخمينية بامتياز، فلا يمكن لأحد أن يعرف على وجه اليقين مستقبل العملات الى المدى الطويل.