النهار

محاربة الدولرة الممر الإلزامي لمحاربة الفساد والدفع باتجاه الإصلاح والإنقاذ الاقتصادي
المصدر: "النهار"
محاربة الدولرة الممر الإلزامي لمحاربة الفساد والدفع باتجاه الإصلاح والإنقاذ الاقتصادي
تعبيرية.
A+   A-
محمد فحيلي، خبير مخاطر مصرفية وباحث في الاقتصاد

انطلقت شرارة الاضطرابات الأخيرة على الساحة النقدية مع إقرار قانون الموازنة العامة للعام 2022 في تشرين من السنة ذاتها، أي بتأخير ما يقارب الـ11 شهراً. وواكب هذا القانون التأكيد على أن الموازنة العامة للعام 2023 وُضعت على نار حامية. من الواضح أن اهتمامات كل مكونات السلطة تصبّ في محاربة الدولار، وليس في إنقاذ الاقتصاد الوطني، والحدّ من التدهور الحادّ والسّريع، ظناً منهم أن الانتصار على الدولار هو انتصار للاقتصاد والعملة الوطنية. عدم إقرار موازنة الـ2023 يعني بأن الـ"لا حوكمة" والـ"لا شفافية" والـ"لا مسؤولية" في إدارة المالية العامة مستمرة من دون حسيب ولا رقيب. ليكن بعلم الجميع أن الوزراء يحاسبون على النفقات التي هي خارج حدود ما تمّ إقراره في قانون الموازنة العامة؛ وعندما لا يكون هناك موازنة، لن يكون هناك حدود للإنفاق ولا للنفاق!

غياب التفكير الاستراتيجي ومقاربة الإصلاح بجدّية وصلابة دفع باتجاه تفكّك السلطة، وبات كلّ واحد منهم "يغنّي على ليلاه":
- مصرف لبنان يتأرجح بين ضبط الإيقاع في سوق الصرف الموازي وتمويل المصاريف التشغيلية لدولة عاجزة ومفلسة بسبب غياب المسؤولية وليس لعدم توافر الموارد. ومصرف لبنان يفتش عن الصالح في هذه السلطة عسى أن يسارع لإقرار الإصلاحات الضرورية. مصرف لبنان، ومن تاريخ اندلاع الأزمة، فُرضت عليه إدارة الأزمة، وإدارة الاقتصاد، وإدارة عجز الدولة عن تمويل نفقاتها الأساسية، بما توافر لديه من موارد. يجب الانتباه إلى أن كلّ تعاميم مصرف لبنان الصادرة منذ سنة الـ2020 معنونة بـ"إجراءات استثنائية" أو تعاميم تُجدّد كلّ شهر (أهمّها التعميم الأساسي 161 - صرف رواتب وأجور القطاع العام على منصّة صيرفة)؛ وإن دلّ ذلك على شيء فعلى أن مصرف لبنان يتجوّل بين الألغام، لأن لا قدرة ولا سلطة له على سنِّ قوانين الكابيتال كونترول، ولا قانون إعادة هيكلة المصارف، ولا قانون الانتظام المالي، وهناك العديد من القوانين المطلوبة لإنقاذ الاقتصاد الوطني. وإذا كان انتخاب رئيس للجمهورية هو الممر الإلزامي لانتظام العمل في السلطات المحليّة، من تشريعية وتنفيذية، فهذا الاستحقاق ليس بيد مصرف لبنان.

- وزارة المال أتحفتنا بالاهتمام بتعزيز إيرادات الدولة من بوابة رفع سعر صرف دولار الإيرادات، من دون التطرق إلى ما يحصل على صعيد النفقات العامة - ما هو سعر صرف دولار النفقات الذي يسدّدها مصرف لبنان للخارج عن الدولة؟ إطلالة وزير المال بعد إقرار قانون الموازنة العامة للعام 2022 ليبشرّنا برفع سعر صرف الدولار الجمركي أطلق شرارة الاضطرابات النقدية بسبب الضبابية التي أرساها على هذه الساحة. تصريح الوزير لم يكن واضحاً لجهة حدود هذا التعديل، ممّا اضطرّ رئيس الوزراء إلى التصريح والتبشير بوجود استثناء على هذا التعديل، ولن يشمل "كل شيء"؛ وسارع حاكم مصرف لبنان لإعلان نأي السلطة النقدية عن هذا التعديل. ولكنه عاد وبشرّ بتعديل سعر صرف دولار السحوبات الاستثنائية بموجب أحكام التعاميم 151 و 158؛ وكانت الخاتمة لهذا المسار النقدي تعديل سعر الصرف الرسمي من الـ1500 إلى الـ15000 بحجة أنه الخطوة الأولى باتجاه توحيد سعر الصرف. وأخطر ما واكب هذا التعديل هو اعتراف رئيس السلطة النقدية بعجزه عن ضبط الارتفاع الحادّ والسريع في سعر صرف الدولار في السوق الموازية بوجود المضاربين والمحتكرين والصرافين غير المرخّص لهم بممارسة المهنة وتطبيقات الواتساب، وطلب من السلطة السياسية التحرك بسرعة لتوقيفهم حتى يكون باستطاعته إرساء الاستقرار في هذه السوق. في ظل فشل السلطة السياسية في إنجاز أي شيء، هذا الاعتراف من قبل حاكم مصرف لبنان وفّر مساحة إضافية للمضاربين بالتحكم بسوق الصرف، وذهب الدولار إلى التحليق من دون حدود.

- وزارة الطاقة والموارد الطبيعية حدّث ولا حرج! بين البنك الدولي والخزانة الأميركية وعقوبات قيصر وتعنّت السلطة السياسية في وطننا الحبيب استوطنت "العتمة" في منازلنا. تشكيل الهيئة الناظمة لمؤسسة كهربا لبنان ممر أساسي، إن لم يكن إلزامياً، للحصول على قرض البنك الدولي والالتفاف على عقوبات قيصر. ومن الواضح كون تشكيل الهيئة الناظمة خطوة إصلاحية، بالرغم من أن الإصلاح ليس على سلّم اهتمامات أرباب السلطة في لبنان.

- المصارف تضرب وتفكّ إضرابها كما يحلو لها. الصيدليات تضرب وتفكّ إضرابها كما يحلو لها. المحلات التجارية تسعّر السلع والموادّ على هواها. المستشفيات تُدولر فواتير الاستشفاء. وهناك الكثير ...

بالرغم من كل ما تخبّط به لبنان من تاريخ إقرار موازنة الـ2022 عاد وزير المالية إلى الواجهة اليوم من دون خطة أو تخطيط للإنقاذ، ولكن مع فائض من التصاريح. بعد أن انتفخ حجم الاستيراد أضعافاً للاستفادة من دولار الـ1500، من دون حسيب ولا رقيب، وقبل أن يجفّ حبر الـ15000 ليرة للدولار الجمركي الواحد أطلّ علينا فخامة وزير المال (في ظل الفراغ الرئاسي، كلّ وزير هو رئيس للجمهورية) ليبشّرنا بارتفاع جديد في دولار الرسوم الجمركية إلى الـ45000 ليرة، على أن يسدّد 75 في المئة بالأوراق النقدية.

هذا التغيير يهدف إلى تعزيز إيرادات الدولة من دون النظر ومراجعة الامتيازات الضريبية الممنوحة على قاعدة الزبائنية السياسية وليس على أسس اقتصادية، ومن دون الاهتمام بضبط الحدود البرية والبحرية للحدّ من التهريب. ويبقى الغائب الأكبر عن جدول أعمال مكونات الطبقة السياسية "الإصلاح".
طلب الإصلاح كان بنداً أساسياً على جدول أعمال الأسرة الدولية في اجتماعاتها مع الفاعليات السياسية اللبنانية من أيام مؤتمر "باريس-1".
من الصعب جداً معرفة من يتبع خطوات من؟!

فخامة وزير الاقتصاد استسلم لطلب أصحاب السوبرماركات، وأقرّ دولرة الأسعار بدافع الحد من الاحتكار وإرساء قسط من الاستقرار في أسعار السلع والمواد الاستهلاكية، مع اعترافه بتعثر قدرة وزارة الاقتصاد على ممارسة الرقابة المطلوبة منها. وحفاظاً على ما تبقى من كرامة للنقد الوطني، اشترط الوزير أن يكون الدفع بالليرة اللبنانية على سعر صرف الدولار في السوق الموازية - اليوم على عتبة الـ90000 ليرة للدولار الواحد. ولكن ما سقط سهواً عن بال وزارة الاقتصاد هو كيف للاستقرار أن يحلّ ضيفاً على الاستهلاك عندما يتم وصل فاتورة الاستهلاك بعملة أجنبية فقد مصرف لبنان قدرته على ضبط سعر صرفها، وما يقارب 70 في المئة من القوى العاملة في لبنان ما زالت تتقاضى أجورها بالليرة اللبنانية؟!

ما يثير القلق اليوم هو أن ما تقوم به وزارة المال بهدف تعزيز إيرادات الدولة يبدو كأنه أطلق عجلة الانهيار والارتطام القاتل. ما يعيشه لبنان اليوم هو شبيه بـ"رمال اقتصادية متحركة"، أي حركة غير مدروسة بتأنٍ قد تؤدي إلى الغرق أكثر في هذه الرمال، وهذا فعلاً ما بات واضحاً من تاريخ إقرار موازنة الـ2022 الفاقدة كلياً للتوازن.

إذا كان التاريخ القريب هو دلالة على ما نستطيع ترقبه في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة، فسيكون لبنان في سباق نحو الارتطام الكبير بين سوداوية الدولار وفشل السلطة السياسية وعجز السلطة النقدية. بهدف تعزيز إيرادات الدولة رفعت وزارة المال سعر صرف الدولار الجمركي من 1500 إلى 15000 واليوم إلى 45000 ليرة. أجبر مصرف لبنان على مواكبة هذا التعديل وبَشِرنا بتعديل سعر صرف دولار السحوبات الاستثنائية وفق أحكام تعاميم مصرف لبنان 151 و158 من 8000/12000 إلى 15000 ليرة ولم يكن ممكناً التوقف عند هذا الحدّ، فاضطر إلى تعديل السعر الرسمي لصرف الدولار من1500 إلى 15000 ليرة للدولار الواحد. لن يستطيع الوقوف عند هذه الحدود بعد تعديل سعر صرف الدولار الجمركي إلى 45000 ليرة.

وكما واكب هذا التخبط بقرارات السلطة المالية ارتفاع بسعر صرف الدولار في السوق الموازية، هكذا سوف تكون المشهدية في الأيام والأسابيع المقبلة.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium