النهار

لبنان: الاقتصاد الغنائمي
تعبيرية (نبيل إسماعيل).
A+   A-
أديب نعمة
 
 
على الرّغم من الكثرة الكثيرة من التحاليل والمقابلات والمقالات التي تتناول الأزمة الاقتصادية في لبنان؛ وعلى الرغم من الكثرة الوافرة من خبراء الاقتصاد والمال الذين اكتشف المواطنون وجودهم خلال السنتين الماضيتين، نكاد لا نجد تحليلاً يحاول أن يحفر قليلاً تحت سطح ما هو متداول من أفكار ومفردات.
 
بعض هذا الخطاب التحليليّ الأكثر عمقاً ونقداً يذهب إلى ثلاثين أو أربعين سنة مضت، حين تأسّست الأزمة – حسب هذا الرأي الصائب عموماً – مع سياسات تثبيت سعر الصرف، والاستدانة المفرطة، ورفع الفوائد....إلخ؛ وأغلبها يبقى أسير المفردات التقليدية نفسها وما تفصح عنه من بُعد تحليليّ محدود مثل وصف الاقتصاد اللبناني السابق والمرغوب فيه لاحقاً بأنه اقتصاد حرّ(؟)، أو الانتقال من اقتصاد ريعيّ إلى اقتصاد منتج، أو مكافحة بعض العوامل "غير الاقتصادية" التي تعيق النمو وسلامة آليات السوق والأسعار مثل الفساد والتهريب إلى خارج الحدود... وفي كلّ ذلك ثمّة من يكاد يحصر المشكلة والحلّ في الشأن التقني البحت، وثمّة من يذهب إلى اشتراط الإصلاح السياسيّ والمؤسّسيّ و"الحوكمة الرشيدة"، وفي أغلب الأحيان يكون جوهرها مكافحة "الفساد" باعتباره التعبير الأفضل عن الترابط بين المستوى الاقتصادي والسياسي.
 
بيكتي: الرأسمالية الباتريمونيالية
 
الغريب في اعتقادي هو أن التحليل، الذي يحاول النفاذ إلى وصف وتعريف وتحليل النظام الاقتصادي اللبناني، لا يستخدم كفاية أدوات الاقتصادي السياسي الحديثة في تحليل طبيعته، وفهم ديناميات اشتغاله، أو يتم استخدام مفاهيم غير ملائمة أو جزئيّة أو ضبابيّة. وفي هذا الصدد، نلفت النظر مثلاً إلى الشعبية الكبيرة لكتابات توماس بيكتي التي انتشرت بسرعة وبقوّة، لا سيّما بين الاقتصاديين ومن يعملون في الحقل الاقتصادي – الاجتماعي والتنمية...إلخ. مع ذلك، لا نجد مثلاً أيّ محاولة جديّة للاستفادة ممّا طرحه في كتبه هذه – لا سيّما منذ كتابه رأس المال في القرن الحادي والعشرين – حيث استخدم في وصفه وتعريفه للرأسمالية المعاصرة مصطلح الرأسمالية الباتريمونيالية (patrimonial capitalism)، واعتبر أنها تظهر علامات تخالف تعريف الرأسماليات السابقة أو المراحل السابقة من النظام الرأسمالي العالمي، وهي ما يجب أن ينصبّ عليها التحليل والدراسة بما هي الصيغة الراهنة للرأسمالية المتحققة في دول المركز الرأسمالي، وعلى المستوى العالمي.
 
يكشف بيكتي قانوناً خاصّاً بهذه الرأسمالية المعاصرة يتمثل في كون عائد الثروة أعلى من عائد العمل، وهذا هو أساس الدينامية التي تعمّق تركّز الثورة، وتولّد التفاوت الحادّ في الثروة والدّخل (واستطراداً السلطة) على المستوى العالمي وفي كلّ بلد؛ وهذا تحوّل عن خاصيّة جوهرية في النظام الرأسماليّ التي تعتبر أن اجتهاد الإنسان من خلال العمل هو المولّد الأساسيّ للثروة، لا ما يرثه الإنسان من أسلافه. ومن خصائصها أيضاً مبدأ العصامية مقابل مبدأ التراتبيّة الموروثة، والمشاركة في العمل المنتج مباشرة مقابل الريع بما هو شكل متخلّف لاستخراج الثروة. والرأسمالية الباتريمونيالية هي عكس ذلك تماماً، هي تغليب للثروة على العمل، والريع على الإنتاج، والوراثة على الجهد الشخصيّ. ومن تجلّيات ذلك أيضاً تضخّم القطاع المالي (اقتصاد رمزي – أمولة الاقتصاد) على حساب الاقتصاد الحقيقي (وصولاً إلى تحولّه أحياناً من اقتصاد رمزي إلى اقتصاد وهميّ من خلال آليات وأدوات مالية بالغة التعقيد منفصلة عن الواقع)؛ كما أن هذه الرأسمالية تؤدّي إلى جعل عائد الثروة يتضاعف بقوة كلما زادت حجم رأس المال - الثروة، عدا عن كونه يتضاعف في بعض القطاعات مقارنة بقطاعات أخرى (قارن مثلاً قطاع التكنولوجيا مع قطاع الزارعة)...إلخ.
 
وسؤالي هنا: هل يُمكن أن يوحي لنا مفهوم الرأسمالية الباتريمونيالية بفكرة جديدة أو مدخل جديد لتحليل الاقتصاد اللبناني، أم أن فكرة الريع والفساد والاقتصاد الحرّ....إلخ كافية؟
 
لمَن اليد العليا: السياسة أم الاقتصاد؟
 
ثمة معنى آخر للباتريمونيالية في علم السياسة والاجتماع له انعكاساته أيضاً على المستوى الاقتصادي. ويعود هذا المفهوم إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر للتمييز بين أنماط الدول والأنظمة السياسية، وأنماط تشكّل السلطة وجهاز الدولة وآليات اشتغالها. ومن دون إطالة، فإن الدولة الباتريمونيالية هي صيغة الدولة التي تسبق الدولة المدنية الحديثة ومؤسّساتها وآليّاتها وقواعدها وطريقة تشكّل السلطة وقواعد الدستور والقانون فيها. ولا نرغب في التوسّع في هذا الجانب الآن، إلا أن باحثاً ألمانياًOliver Schlumberger: Patrimonial capitalism: economic reform and economic order in the Arab world - 2004) درس في أطروحة الدكتوراة اقتصادات أربع دول عربية (مصر والأردن والجزائر والإمارات)، وخلص إلى وصف الاقتصادات العربية بأنها رأسمالية باتريمونيالية (patrimonial capitalism)، وحدّد خصائص هذه الرأسمالية في بلداننا من المدخل السياسي بأولوية الفاعلية السياسية وتفوقها على الفاعلية الاقتصادية، أي إن السياسي يتحكم بالاقتصادي بمعنى ما، وبنسبة أعلى ممّا درج عليه الأمر في رأسماليات المركز (وهو يتوقع أن تتحول رأسماليات الدول المتقدّمة إلى رأسماليات باتريمونيالية أيضاً).
 
وهنا أيضاً أتساءل: ألا يوحي لنا مثل هذا التحليل بأفكار مختلفة قليلاً في محاولتنا لفهم الاقتصاد اللبناني وعلاقته بالمستوى السياسي بعيداً من مفاهيم الفساد ورأسمالية المحاسيب أو الاقتصاد الريعي...إلخ؟
 
لبنان: دولة واقتصاد غنائميان
 
لقد قمت بمحاولة لاستخدام هذه المفاهيم والأفكار في تحليلي لوضع لبنان (وبلدان المنطقة العربية)، والإفادة من مفهوم الباتريمونيالية والنيوباتريمونيالية كمفتاح تحليلي. وقد عرّبت هذه المصطلح إلى الدولة الغنائمية والرأسمالية الغنائمية في استخدام لمصطلح الغنيمة بما هو تعبير عن خاصية للدولة والنظام وسلوك أهل السلطة والاقتصاد أيضاً. وأعتقد أنّ ما نراه من خصائص في أداء أهل السلطة، وفي طبيعة السلطة والدولة وعمل المؤسّسات والاقتصاد في لبنان، ينطبق عليه هذا الوصف بشكل صارخ. وأذكر أنّني لا أقصد وصفاً إنشائيّاً وشعبويّاً، بل أقصد بالغنائمية وصفاً علمياً دقيقاً هو اشتقاق وتعريب لمفهوم الباتريمونيالية، سواء وفق تعريف بيكتي في الاقتصاد أو وفق تعريف فيبير أو شلومبرغر في السياسة والاقتصاد على حدّ سواء. وأعتقد أن في ذلك مفتاحاً لفهم تعامل السلطة مع الأزمة بين 2019 و2022، وأقصد السلطة بمكوّناتها الثلاثة: مَن يمسك سلطة السلاح والعنف والقسر (وهو طرف واحد أساساً)، ومَن يملك سلطة المؤسّسات وأجهزة الدولة (هو حفنة)، ومَن يملك سلطة الاقتصاد والمال (وهم حفنة من الكارتيلات المصرفية والتجارية والعقارية...إلخ). وطبعاً، هناك تداخل كبير بين هذه المكوّنات، ولها تعبيرات سياسية مباشرة وتعبيرات حزبيّة ومؤسّسيّة مختلفة أيضاً.
 
خلاصة القول: إنه لا بدّ من الخروج من التبسيط، ومن التكرار غير الخلاق للأفكار نفسها، ومن افتراض إمكانية الخروج من الأزمة من خلال حلول تقنية والتنافس أو التباري في مناقشة هذه الحلول والترويج لها. الترابط العضويّ بين عناصر الأزمة المركّبة يتطلب أن ننسى إمكانية استنساخ حلول تقنية أو حتى حلول مؤسّسيّة وسياسية مصمّمة على أساس نموذج دولة مدنيّة حديثة محكومة بالدستور والقانون، أو افتراض وجود اقتصاد سوق تنافسيّة وعقلانيّة لم تعد موجودة حتى في رأسماليّات المركز.
 
نحن في دولة غنائميّة لا تحترم هامش الاستقلاليّة النسبيّة للمستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتخضع كلّ فعالية، وكلّ أهداف خاصّة بهذه المستويات للمستوى الذي يحدّد بقاءها في السلطة؛ وهي دولة لا دستور فيها، ولا ديمقراطية، ولا مؤسّسات محايدة، والحاكم فيها – صاحب السلطة خارج المؤسّسات أو داخلها – يستحوذ على الدولة ومؤسّساتها، يحوّلها إلى دولة بلا قانون، حيث العلوية لقانون القوة لا لقوة القانون والحق. فإذا أردنا التغيير والبحث عن حلّ، كان علينا كسر هذه الدولة الغنائمية أو اختراقها اختراقاً حقيقيّاً ومحسوساً، وهذا يعني بناء ميزان قوى جديد بفاعلين جدد: حركة شعبيّة منظّمة وقويّة، وتعبيرات سياسية ذات برامج وأهداف واضحة وراديكالية ومتكاملة في مواجهة مكوّنات السّلطة المثلثة التي أشرنا إليها، وكتلة برلمانية متواصلة مع الحركتين السياسية والشعبية تعبّر عنهما، وتستند إليهما وتعزّزهما، وهو مستوى بات متاحاً من الناحية المبدئية مع وصول نواب يعبّرون عن ثورة 17 تشرين بتكويناتها المتنوّعة وروحها وأهدافها المشتركة.
 
خبير ومستشار التنمية في شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية

اقرأ في النهار Premium