أجواء إيجابية تُشاع بعدما اتُفق على ترسيم الحدود البحرية، وتقييمه بأنّه عامل استقرار، ليس للبنان فقط بل للمنطقة، ولا سيما مع عزم الشركات النفطية العالمية على الاستثمار في لبنان والترحيب الدولي بهذا الاتفاق.
وبينما يُعدّ الاستقرار في أي دولة عاملاً أساسياً للاستثمار، لا يزال في لبنان عوامل أخرى غير ملائمة لهذه المشاريع، على رأسها غياب الاستقرار السياسي والنقدي والمالي، إلى جانب غياب الثقة بلبنان في الوقت الراهن.
إذن، هل فعلاً الأجواء إيجابية؟ وهل تفتح شركات النفط الأجنبية باب الاستثمار أمام الاستثمارات الخارجية في قطاعات غير نفطية في لبنان؟
"الكلام عن استقرار مبالَغ فيه"، هذا ما يؤكّده الخبير الاقتصادي، البرفسور بيار الخوري، في حديثه لـ"النهار". الشركات المرتبطة حصراً بحفر واستكشاف النفط والغاز، وشركات الأعمال المشتقّة من هذا القطاع، ستدخل حتماً إلى لبنان.
لكن الشركات الأخرى، إذا ما أحبّت الاستثمار في لبنان حالياً، فستواجه مشاكل أخرى، فهي ستدخل إلى بلد يغيب عنه النظام المالي السليم ونظام التحويلات السليم، ولا يمكنها إجراء التحويلات المالية عبر الشركات الدولية أو التعامل عبر الاقتصاد النقدي فقط.
وإذا ما تحدّثنا عن انعكاس ملف الترسيم على الاستثمارات الأخرى، يعتقد الخوري أنّ "أمامنا مساراً طويلاً جداً لكي يأتي إلى لبنان مستثمر خارجي حرّ غير مرتبط بعقود دولية كاتفاق الترسيم أو بالدول التي تضع ودائع في لبنان لسبب أو لآخر".
وهذان العاملان، وفق الخوري، لا يدلّان على مؤشرات استثمارية، بل مؤشرات سياسية وسياسية فقط، لأنّه بعد الأزمة، تأثّرت البيئة الاستثمارية في لبنان ومعها قنوات الأموال، إضافة إلى العوامل التي ركّز عليها المستثمِر في هذه الشركات وهو البُعد الأخلاقي للاستثمار، لكون لبنان في نظر المجتمع الدولي والدول الخارجية، يُعدّ "دولة فاسدة" وفق تقييم المؤسسات الدولية التي وصفت الانهيار في لبنان بأنّه انهيار متعمَّد من قِبل مسؤوليه.
يضاف إلى ذلك، غياب الانطباع المصرفي السليم من قِبل المجتمع الدولي، لا بل هو قطاع مُساءَل حالياً ويحتاج إلى إعادة هيكلة ومن ضمنه المصرف المركزي. لذلك، "المستثمر الخارجي سينتظر إلى أين سيصل مشروع إعادة الهيكلة".
كذلك، يعاني لبنان حالياً من اقتصادٍ ضعيف، إذا ما تحدّثنا عن اقتصادٍ رسمي، وهو اقتصاد يساوي 20 مليار دولار، وهو حجم لا يمكنه جذب أي مستثمِر. فقبل الأزمة في 2019، كان حجم الاقتصاد في لبنان حوالي 60 مليار دولار، وكانت حينها شركات استثمارية دولية تتجنّب الاستثمار في لبنان بسبب المخاطر السياسية والاقتصادية الموجودة، أي إنّه قبل الأزمة، لم يعد لبنان جاذباً للاستثمارات الخارجية.
العامل السياسي أولاً...
هناك مجموعة عوامل ترتبط بالسياسة أولاً، إلى جانب شروط اقتصادية ومالية، يتحدّث عنها الكاتب والباحث الاقتصادي، زياد ناصر الدين لـ"النهار". فمن المفترَض أن ينعكس ملف الترسيم إيجاباً على جميع الملفات السياسية العالقة في لبنان، لكن لا يمكنه الاستكمال دون تهدئة سياسية داخلية وإصلاح سياسي داخلي إلى جانب اتخاذ قرارات مفيدة على مستوى الاقتصاد السياسي والنفطي.
ويجب أن ينعكس الترسيم أيضاً إيجاباً على انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة سريعاً، إضافة إلى إقرار خطة اقتصادية للاستفادة من النفط والغاز، مع إصلاح اقتصادي، لنستعيد عامل الثقة المفقود. فتنفيذ كل ذلك، سيؤثّر إيجاباً على باقي القطاعات الاقتصادية. ومجمل هذه العوامل، إذا ما نُفّذت كما يجب، تشكّل قاعدة لجذب الاستثمارات الخارجية.
ويشير ناصر الدين إلى أنّ "الواقع النقدي حالياً لا يبشّر بالخير، إذ سنشهد انهيارات نقدية ومالية إضافية إلى حين الاستفادة من استخراج النفط والغاز". فهناك فرص استثمار مباشرة من استخراج النفط والغاز، كما أنّ فرص الاستثمارات الخارجية في قطاعات متنوّعة غير النفط والغاز التي تنتظر دخول لبنان، هي فرص غير مباشرة، وتنتظر الاستفادة من الفرصة الراهنة، شرط نجاح تنفيذ وتطبيق ملف النفط والغاز. فأكثر منطقة تمتعاً بفرصة للاستثمار النفطي على سواحل الشرق الأوسط هي لبنان، لكنّه يحتاج إلى الثقة به وباقتصاده.
وفيما ملف النفط وحده لن يسعه إنقاذ القطاع المصرفي بإدارته الحالية، يجب إقرار إصلاح اقتصادي ومصرفي، فالواقع المصرفي هو من نقاط الضعف لأي استثمار خارجي. لكن، "يمكن رؤية الاستثمارات الخارجية تأتي إلى لبنان على مدى ليس ببعيد"، بحسب ناصر الدين.
الثقة ثمّ الثقة!
"لا شك في أنّ اتفاق الترسيم من المفترض أن يجذب استثمارات خارجية على المدى القريب والمتوسط والبعيد"، وفق رئيس الإتحاد الدولي لرجال وسيدات الأعمال اللبنانيين MIDEL وعميد كلية إدارة الأعمال في جامعة القديس يوسف، الدكتور فؤاد زمكحل.
لكن الاستثمارات، من أي نوع كانت، مرتبطة بالثقة بالاقتصاد والإدارة والشفافية والحوكمة والنظام السياسي والنظام الأمني، و"لسوء الحظ، جميع هذه العوامل من ثقة غير موجودة حالياً"، يقول زمكحل في حديث لـ"النهار".
ويجب ألّا ننسى أنّ المسؤولين عن ملاحقة عملية التنقيب واستخدام المدخول والمردود على الاستثمار من النفط والغاز، هم أنفسهم مَن هدر ما يفوق 200 مليار دولار التي كانت موجودة في لبنان وهدروا الموارد البشرية والاقتصاد اللبناني والقطاع الخاص فيه.
لذلك، وفق زمكحل، فإنّ "الثقة الاستثمارية الدولية في لبنان غير موجودة، وحالياً جميع المستثمرين المحليين والإقليميين والدوليين في حالة ترقّب للأوضاع في لبنان وقد يكون هناك اهتمام للاستثمار في لبنان لكن عامل الثقة هو الأهم لجميع أنواع الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة في جميع القطاعات".
أيضاً، هناك أمر أساسي يترقّبه المستثمرون الخارجيون، وهو أشبه باختبار، ألا وهو تعامل الدولة اللبنانية مع شركة "توتال" المسؤولة عن التنقيب، "فصحيح أن هناك أجواءً إيجابية، لكنّنا حذرون أيضاً".
القطاع السياحي يعاني من المقاطعة العربية والخليجية
من المعلوم أنّ من أعمدة الاقتصاد اللبناني، قطاعي السياحة والخدمات المالية في لبنان. بالتالي، لا بدّ من قراءه القطاع السياحي لعودة الاستثمارات الخارجية في الوقت الراهن. في هذا الإطار يرى رئيس اتحاد النقابات السياحية ونقيب أصحاب الفنادق، بيار الأشقر، في حديث لـ"النهار"، أنّ "مشكلة القطاع السياحي اليوم في لبنان هي مشكلة سياسية بالدرجة الأولى بسبب المقاطعة العربية والخليجية للبنان، فالمنطقة العربية هي العمود الفقري للسياحة في لبنان، وهم المستثمرون الأكبر فيه في قطاع السياحة".
لذلك، يتطلّب أي استثمار ضخم في القطاع السياحي، وفق الأشقر، "استقراراً سياسياً يتمثّل بحياد تجاه الملفات الإقليمية لنأمل أن تعود هذه الاستثمارات في يوم من الأيام. فهذه الاستثمارات مستعدة للعودة إلى لبنان لا بل مشتاقة للعودة إليه لدى حل المشكلة السياسية".
لكن، ألا يُعدّ "الاستقرار في المنطقة"، وهو المصطلح الذي اعتمده المجتمع الدولي بعد اتفاق الترسيم، عاملاً جاذباً لعودة هذه الاستثمارات؟ يجيب الأشقر أنّ "هذا العامل هو عامل مستقبلي بلا شك، يرتبط أيضاً بمصالحة لبنان مع الدول الخليجية، خصوصاً عبر انتخاب رئيس جمهورية غير خصم لهذه الدول، إضافة إلى قيام لبنان بالإصلاحات اللازمة لتشكيل بيئة ملائمة للاستثمار في لبنان".
وبحسب الأشقر، "بمجرّد تنفيذ هذه الخطوات، الاستثمارات جاهزة للعودة فوراً وهي مسألة وقت فقط".