النهار

هل تلجأ السلطة النقدية إلى إنشاء مصرف متخصص لمعالجة الديون المتعثرة لدى المصارف والممنوحة للقطاع الخاص؟
المصدر: "النهار"
هل تلجأ السلطة النقدية إلى إنشاء مصرف متخصص لمعالجة الديون المتعثرة لدى المصارف والممنوحة للقطاع الخاص؟
مصرف لبنان (نبيل إسماعيل).
A+   A-
ينظر عدد من المراقبين إلى خسارة المودعين على أنها المبالغ التي أُودِعت في المصارف قبل تشرين الأول 2019 وتعذّر بعد ذلك التصرف بها من المودع. وهذه المبالغ هي ذاتها التي استثمرت المصارف الجزء الوافر منها في توظيفات لدى القطاعين العام والخاص، ولكن مع ضمانات في التسليفات للقطاع الخاص، وهو الأمر الذي يخفف حجم خسارة المصارف. أما في ما يخص القطاع العام فلا ينطبق هنا منطق الربح والخسارة، إذ يقتصر الحديث على التعثر الظرفي وحظوظ التعافي والعودة إلى الإنتظام في تسديد الدَّين العام الذي جرى توظيفه (سندات خزينة بالليرة اللبنانية ويوروبوند) من أموال للمودعين من المصارف مع لفت النظر إلى أنه الجزء الأصغر من توظيفات المصارف، إضافة إلى توظيفات صناديق الإستثمار الأجنبية في إصدارات الدولة اللبنانية من اليوروبوند.

طريقة احتساب خسائر القطاع المصرفي تختلف عن تلك التي يجب استخدامها لاحتساب خسائر المودعين لأن هناك ضمانات في مقابل معظم توظيفات المصارف يمكن تسييلها وتعويض جزء من اي خسارة قد تحصل بسبب تعثّر أي قرض، إضافة إلى المؤونات المفترض أن تخصصها المصارف من أرباحها لامتصاص الخسائر المتوقعة في محفظة التسليفات للقطاع الخاص. وهذا لا ينطبق على القطاع العام، بمعنى انه إذا قررت الدولة ألّا تدفع الدين، كما هي الحال اليوم، فان المصرف لا يستطيع ان يحجز على موجودات الدولة ليصار الى تسييلها لتغطية جزء من هذه الخسارة، ولا مؤونة تخصص في مقابل هذه التوظيفات لأن لا مخاطر إئتمانية تُحتسب عليها. الامر عينه ينطبق على التوظيفات لدى مصرف لبنان، ولكن هذا يعني أن طريقة احتساب خسارة المصارف في مقابل توظيفاتها بالقطاع الخاص تختلف عن احتساب خسائرها تجاه توظيفاتها لدى القطاع العام، ولهذا يجب أن تختلف المعالجة.
القاسم المشترك بين الأطراف الأربعة (القطاع المصرفي، مصرف لبنان، القطاعين العام والخاص) هي أموال المودعين ولا لبس بتحديد حجمها، ولكن قد تكون هناك اجتهادات في تقييم الآثار السلبية ومعاناة المودعين من جراء طريقة تعامل الدولة مع ديونها، وتعاطي المصارف مع المودعين. وتختلف هذه الآثار والمعاناة بين مودع فرد ومودع مؤسسة. ويقول خبير المخاطر المصرفية والباحث في الإقتصاد محمد فحيلي، إن السلطة النقدية قد تلجأ إلى طريقة أخرى لمعالجة الديون المتعثرة لدى المصارف (Troubled Assets) والممنوحة للقطاع الخاص، وهي انشاء مصرف متخصص يحتضن كل هذه الموجودات المتعثرة والهالكة مع مجمل الضمانات المتوافرة في مقابل هذه التسليفات وتتم معالجتها بطريقة باردة للتخفيف من الآثار السلبية. اما التسليفات الموهوبة في مقابل ضمانات نقدية فمن المفترض أن تُعتبر تسليفات خالية من المخاطر الإئتمانية ومعالجتها سهلة ويجب أن تحصل من دون أي خسارة تُذكر.

أمام هذا الواقع، يستخلص فحيلي أن الجزء الموجع من خسائر القطاع المصرفي هو الدين المتعثر كليا ومن دون ضمانات، ومن دون أفق للمعالجة من خلال إعادة هيكلة هذا الدين وجدولته. والشرط الأساسي لمعالجة خسارة المودعين هو معالجة موضوع خسائر المصارف، وهذه المعالجة وفق فحيلي تتطلب:

 مقاصة بين القروض الممنوحة في مقابل ضمانات نقدية.
 تسييل العقارات موضوع الضمانات على القروض الهالكة من دون أي احتمال لتسديدها، وهذا يتطلب وقتاً قد يكون طويلا لتفادي الخسائر التي قد تنتج عن التسرع في تسييل الموجودات.
 هيكلة القروض المتعثرة وإعادة جدولتها، ولكن إمكانية التسديد قد تتحسن مع المعالجة، وهذا يتطلب وقتاً إضافياً لتسديد الدين.
 الجزء الخارج عن إرادة المصارف في المعالجة هو الدين الممنوح للقطاع العام. إنه الجزء الأصغر لجهة حجمه، ولكنه الأكثر تأثيرا على صحة القطاع المصرفي وعافيته من خلال التصنيف الإئتماني للبنان وتداعياته على علاقة المصارف بالمصارف المراسلة والعالم الخارجي. كل ما هو مطلوب اليوم من السلطة الحاكمة هو خطة واضحة لهيكلة هذا الدين وإعادة جدولته على نحو يحظى بمباركة صندوق النقد الدولي وموافقته. إتمام هذه الخطة وإقرارها هو مفتاح الحل الحقيقي لأنه يتيح للمصارف تنظيم حساباتها لجهة السيولة المتوافرة والمباشرة بوضع برنامجها لإعادة الودائع لأصحابها. ومن المستحيل تظهير هذه الخطة من دون إقرار وتنفيذ إصلاحات بنيوية على صعيد المالية العامة الدولة (تحسين الإيرادات وتفعيلها وترشيد الإنفاق).

هيكلة الديون واعادة جدولتها ومعالجتها من جراء اللجوء إلى تسييل الضمانات، كلها تتطلب وقتاً قد يكون طويلا بسبب الأزمة الإقتصادية التي تهلك الإقتصاد اللبناني هذه الأيام، ومن هنا يأتي العنصر الثاني باحتساب الخسارة وهو العنصر الزمني. فهل يدخل العامل الزمني في احتساب الخسارة؟ الوقت والتضخم الذي نتج عن الأزمة الإقتصادية التي كان سببها وبوضوح أداء السلطة السياسية، وتأثيرات كل هذا على حياة المواطن اللبناني هو جزء من الخسارة أيضا.

وأيضا خسارة المودع، بالمباشر وغير المباشر، هي ما وصل إليه مصير الودائع بالعملة الأجنبية التي إما تعذَّر الوصول إليها واستعمالها من قِبل صاحب الوديعة بسبب الضوابط التي فرضتها المصارف بشكل تعسفي ومفاجىء، وإما الإستقطاع منها عن طريق تحويلها إلى الليرة اللبنانية عند السحب من الحساب على سعر صرف لا يعكس واقع الأمر. وكذلك الودائع بالليرة اللبنانية التي فقدت الكثير من قيمتها الشرائية بسبب لجوء الحكومة إلى التضخم (أي طباعة النقد) كوسيلة لتمويل نفقاتها لانعدام قدرتها على الإستدانة، وتقلص إيراداتها، إضافة إلى الضوابط التي وضعتها المصارف على السحوبات من الحسابات المكونة بالعملة الوطنية وتأثير ذلك على قدرة المودع على تمويل فاتورة الإستهلاك بكرامة.

كما أن التوقف التام عن دفع الفوائد على الودائع المجمدة لأجل، حول موجودات المودع لدى المصارف الى موجودات غير منتجة وأشبه بموجودات ثابتة تتآكل مع مرور الزمن. وهذا عنصر أساسي في احتساب الخسارة.

في الخلاصة، يبقى المودع من أكبر الخاسرين نتيجة الأزمة وتُرك لا حول له ولا قوة لجهة الوصول إلى أمواله الموجودة في المصارف، ولجهة الضرر الذي انعكس على حياته عموما. ومن البديهي أنه كان هناك مبالغة في ردّ فعل المصارف على التعثر غير المنظم في آذار 2020 لجهة توقفها التام عن تلبية حاجات المودعين لأن حجم هذا القسط من التوظيفات كان دون الـ 9% من حجم الودائع آنذاك، وتوظيفاتها في القطاع الخاص مدعومة بضمانات تتعدى قيمتها السوقية الـ 120% من قيمة القروض مضاف إليها الفوائد والعمولات المتوجبة، ومدعومة أيضا بمؤونة جاهزة لامتصاص أي خسارة قد تكون متوقعة على هذه التسليفات. لم يعد سراً اليوم أن عددا كبيرا من المصارف توقف عن الإكتتاب بإصدارات سندات اليوروبوند قبل اندلاع الأزمة المالية، ومصارف أخرى أفرغت حمولتها من اليورو بوند عند ظهور أول مؤشر لهذه الأزمة. ويبقى السؤال الأهم: لماذا توقفت جميع المصارف عن تلبية كل حاجات (وليس رغبات) المودع نهائيا؟ وعلى المقلب السياسي، الحديث عن ضرورة تحديد حجم الخسائر كمدخل أساسي لأي خطة إنقاذ تنتج عن الحكومة هو هروب إلى الأمام وتهرّب من المسؤولية. الإصلاح ثم الإصلاح ثم الإصلاح هو المدخل الأساسي لأي خطة لإنقاذ الإقتصاد اللبناني من ارتكابات الطبقة السياسية المدمرة نظراً الى ما للإصلاح من تأثيرات كبيرة على احتساب حجم الخسارة، وارتدادات إيجابية على صورة لبنان أمام المجتمع الدولي.


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium