تأثّر سعر اليورو بالتطوّر الجيو-استراتيجي المتمثِّل بانقطاع الغاز عن دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها ألمانيا. فبعد انخفاضه التاريخي ليساوي الدولار، انخفض اليورو مجدداً اليوم ليصبح دون الدولار، ووصل إلى أقلّ من 0.99 مقابل العملة الأميركية، لأول مرة منذ 20 عاماً. وجاء هذا التراجع بعد أن أعلنت روسيا أنّها ستغلق خط أنابيب إمدادات الغاز الرئيسي إلى أوروبا إلى أجل غير مُسمّى.
واخترق مؤشر الدولار، الذي يقيس العملة الأميركية مقابل ست عملات رئيسية، أعلى مستوى له في عقدين من الزمان حيث تراجع الجنيه البريطاني وسط مخاوف بشأن إمدادات الطاقة والنمو الاقتصادي الأوروبي.
وقد أكّدت شركة "غازبروم" الروسية للطاقة يوم الجمعة أنّها لن تستأنف إمداداتها من الغاز الطبيعي لألمانيا عبر خط أنابيب "نورد ستريم 1" الرئيسي، وألقت باللوم على التوربينات المعطلة. وقد جاء هذا الإعلان بعد ساعات من موافقة مجموعة الدول السبع الاقتصادية على خطة لتطبيق حدٍّ أقصى لسعر النفط الروسي.
كذلك، ارتفع سعر الغاز في الشهر الأول في مركز TTF الهولندي، بنسبة 30 في المئة تقريباً صباح اليوم، حيث وصل إلى 282.5 يورو لكل ميغاواط / ساعة.
دخلت أوروبا مرحلة عدم اليقين السياسي بسبب حرب أوكرانيا، إلى جانب ما أنفقه الاتحاد الأوروبي (حوالي 5 تريليون دولار) لاستيعاب تبعات جائحة كورونا على القطاع المنزلي وقطاع الأعمال. إضافةً إلى الفائدة المرجعية في دول الاتحاد الأوروبي، التي لا تزال 0,6، فيما ارتفعت ثلاث مرات في الولايات المتحدة الأميركية، ما شجّع على استقطاب الرساميل إلى منطقة الدولار والاقتصاد الأميركي.
كانت هذه الأسباب الأولى التي أوصلت اليورو إلى انخفاض أدّى إلى موازاة سعر الدولار. بحسب الخبير الاقتصادي، البروفسور بيار الخوري.
وفي حديث لـ"النهار"، يضيف الخوري إلى هذه الأسباب، سبباً يكمن في إعلان روسيا التوقّف عن إمداد أوروبا بالغاز عبر خط "نورد ستريم 1". فاليوم توقّف إمداد الغاز الروسي إلى أوروبا أي أنّ "دول الاتحاد الأوروبي دخلت في أزمة طاقة وتضخّم، إلى جانب عدم يقين سياسي-اقتصادي كبير كون أزمة الطاقة فُتحت على مصراعيها مع توقّف خط الإمداد وعجز مصادر الطاقة الأخرى إلّا عن تغطية 20 في المئة فقط من الحاجة إلى الطاقة التي توفرها روسيا". يضاف إلى ذلك، اعتماد أوروبا سياسات تقنين شديدة لا أحد يدري مدى فعاليتها مع الشتاء القارس ومدى ملاءمتها.
وقد تراجع اليورو إلى هذا المستوى قبل اجتماع البنك المركزي الأوروبي يوم الخميس، حيث يتوقّع الاقتصاديّون أن يُرفع معدل الفائدة على الودائع من 0 إلى 0.5 في المئة أو 0.75 في المئة، على خلفية القلق بشأن قدرة أوروبا على تلبية احتياجاتها من الطاقة هذا الشتاء.
وبرأي الخوري، يدلّ توجّه البنك المركزي الأوروبي هذا على المخاطر التضخمية الواضحة في أوروبا. فهم كانوا يحاولون تفادي هذا الاحتمال لخوفهم من أن يبطّئ من النموّ الاقتصادي، خصوصاً في منطقة ينتشر فيها عدم اليقين، وأن يتسبّب هذا الإجراء بمشاكل للدول ذات المديونية العالية في الاتحاد الأوروبي، كاليونان وإيطاليا، وإسبانيا.
لكن حالياً، برأي الخوري، لا مهرب من هذا الإجراء لأنّ أزمة الطاقة تزيد من مشكلة التضخم وارتفاع الأسعار، فالطاقة في أوروبا لا تقتصر على البنزين والغاز، فالطاقة هي قاطرة أسعار، إذ كل شيء في هذه الدول يحتاج إلى موارد الطاقة.
كذلك، فإنّ رفع الفائدة لا يهدف إلى تهدئة اليورو فقط، بل إلى تهدئة أسعار كل السلع والخدمات. فاليوم، كل الاقتصاد الأوروبي مهدَّد بتضخّم جامح، وبارتفاع في التضخّم دون القدرة على مواجهته، مع ما يرافقه من ركود اقتصادي. وهذا التهديد، وفق الخوري، يطال الولايات المتحدة أيضاً، لكن أوروبا قد تعاني منه أكثر، والمستثمِر الذي ينوي الاستثمار في أوروبا سيخاف لا شك. لذلك، قد نشهد هجرة للرساميل من أوروبا بسب ارتفاع أسعار الفائدة الأمركية والخوف من المستقبل في أوروبا.
وعن مسار اليورو يراه خوري "انحدارياً"، فإضافة إلى تراجعه خلال سنة، أظهر أنّه فاقد للقدرة على التماسك خلال الأشهر الـ7 الماضية منذ شهر شباط.
وقال باولو جينتيلوني، المفوض الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي، لـCNBC "بالطبع علينا توفير الطاقة، وعلينا مشاركة الطاقة، ولدينا مستوى عالٍ من التخزين ولا نخشى قرارات بوتين".
ومن جهته، قال فيراج باتيل، محلِّل الاقتصاد الكلي العالمي في شركة Vanda Research الاستشارية للاستثمار، إنّ العديد من المستثمرين يسعون إلى بيع اليورو والسندات الحكومية الأوروبية، التي شهدت ارتفاعاً في العوائد خلال الشهر الماضي على خلفية توقّع ارتفاع أسعار الفائدة.
وأضاف باتيل لـCNBC أنّ "هذه الأسواق تبيع أي أخبار سيّئة تتعلّق بسرد تدفقات الغاز في روسيا، بينما تحجم عن الانتعاش على أي تحسّن هامشي في أزمة الطاقة". ومع ذلك، إنّ "الأخبار السيئة يمكن أن تصبح أخباراً جيّدة للأصول الأوروبية المملوكة بالكامل". واعتبر أنّ "السوق لا تقدّر فرصة التدخّل في السياسة من المسؤولين الحكوميين للمساعدة في تقليل مخاطر الركود التضخمي في القارة".
وأعلنت الحكومة الألمانية أمس عن حزمة بقيمة 65 مليار يورو لخفض فواتير الطاقة الاستهلاكية ودعم الأعمال التجارية.
وبحسب "بلومبيرغ"، قال بيت فيليب كريستيانسن، كبير المحللين الاستراتيجيين في بنك "دانسكي" في كوبنهاغن، إنّ وقف الغاز "يمثل ضربة أخرى للتوقعات الاقتصادية الأوروبية، ممّا جعل اليورو ضعيفاً على المدى القريب بسبب المخاطر المتعلقة بالحوكمة". وأضاف "في الوقت نفسه، هناك حزمة أخرى من الحوافز من ألمانيا في محاولة للحفاظ على النمو، ممّا يجعل التنبّؤ بالتضخم وعمل البنك المركزي الأوروبي أكثر صعوبة. وهذا قد يؤدي إلى مزيد من التشديد بسبب الضغوط التضخمية الطويلة الأجل".
كذلك، ثمّة توقعات متزايدة بأن يرفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة بمقدار 75 نقطة، ولا يزال القرار يمثل تحدياً حيث تدير الرئيسة كريستين لاغارد وزملاؤها المشاكل المزدوجة المتمثلة في ارتفاع التضخم والركود الوشيك.
وخفض محلّلو Goldman Sachs Group Inc، توقّعاتهم لليورو إلى 97 سنتاً خلال الأشهر الثلاثة المقبلة من 99 سنتاً سابقاً، كما قالوا في مذكرة، قبل الإعلان عن حزم الإغاثة المختلفة. وفي تقديرهم، أنّ اليورو سيظل أقلّ من تعادل الدولار على مدى ستة أشهر، على عكس ما توقّعوا له الانتعاش إلى 1.02 دولار.