يكاد لا يمر أسبوع حتى تعود الطوابير امام الأفران التي تعمد الى تقنين عملية البيع بحجة عدم تأمين المطاحن للطحين، ليعود الحديث يوميا عن أزمة خبز وانقطاع محتمل للقمح في المطاحن. هي "بهدلة" يومية يعاني منها المواطن اللبناني تضاف الى ازمات كثيرة من محروقات ونقص في الأدوية وتقنين قاس للكهرباء وتبعات انهيار سعر الصرف وغيرها. ولكن، على خط مواز، تكشفت خيوط "مافيا" الطحين التي نشطت كثيرا منذ بداية الازمة.
الأسبوع الماضي، قدّم عضو "اللقاء الديموقراطي" الوزير السابق وائل أبو فاعور إلى النائب العام المالي القاضي علي إبرهيم تقريراً مفصّلاً يتضمن تفاصيل وأسماء حول مافيا الطحين التي تتعلق بشبكة تتولى ما وصفه بالسطو على الطحين المدعوم، وتضم بحسب المعلومات المدير العام لمكتب الحبوب والشمندر السكري في وزارة الاقتصاد جرجس برباري، ورئيس دائرة الإنتاج في المديرية حسن حمود، والمسؤول عن توزيع قسائم الطحين محمد الزعتري، فيما أشار التقرير إلى شبهات حول تورط السيد كريم سلام شقيق الوزير أمين سلام ومستشاره في هذه الشبكة. ورغم تسلّمه تقريراً يتضمن كل التفاصيل حول ما أصبح يُعرف بمافيا الطحين، لم يقدِم القضاء حتى على اتخاذ أي خطوة عملية، في وقت علمت "النهار" ان النيابة العامة المالية مستمرة في تحقيقاتها. في الايام الماضية، أحالَ الوزير سلام على النيابةِ العامة المالية إخباراً موثقاً بالأرقامِ والأدلة يظهر ما يصفه "بجشعَ محتكري لقمةِ العيش"، طالباً التحركَ السريعَ لمحاسبتِهم "حتى يكونوا عبرةً لكلِّ من يتجرأ على الاستثمارِ في وجع اللبنانيين"، وذلك بعد تجاوزاتِ بعضِ أصحابِ الافران وقيامِهم ببيعِ الطحينِ المدعومِ المخصصِ للخبزِ العربي في السوقِ السوداء بأثمانٍ مضاعفةٍ، إضافةً إلى إدخالِ محسّناتٍ عليهِ لاستعمالِه في صناعةِ الحلوياتِ والكعكِ والخبز الافرنجي، بما يدرُّ عليهم أرباحاً مضاعفة، مسجّلينَ بذلك هدراً للمالِ العام.
بالعودة الى الآلية التي يُعمل بها في وزارة الاقتصاد للحصول على قمح مدعوم، على كل صاحب فرن، سواء كان كبيراً أم صغيراً، أن يتقدّم بطلب إلى الوزارة عبر مديرية الحبوب والشمندر السكري، وبموجب هذا الطلب يحصل على قسيمة تتناسب مع حجم الاستهلاك السنوي له من القمح او الطحين، ويتم توزيعه على الناس بشكل يتناسب مع مصروفهم السنوي. ولكن، بحسب التقرير الذي قدمه ابو فاعور الى النيابة العامة المالية، فان هذه الآلية "تبقى نظرية، بينما الآلية الفعلية هي أنَّ هناك "مافيا" ضمن مديرية الحبوب والشمندر السكري مُتحكمة بمسألة تسلم الطحين وتوزيعه، وهي التي تؤدي إلى الأزمة التي وصلنا إليها عبر الفساد والسرقة والإحتكار والتهريب". وتقوم النيابة العامة المالية حاليا بالتحقيق في مسألة قسائم الطحين التي يجري توزيعها على الأفران والاستنسابية حيث تحقق في عمليات مالية قد تكون تمت بين التجار وموظفين في وزارة الاقتصاد للحصول على الأفضلية خلافاً لمبدأ التوزيع العادل بين الأفران والمناطق. هذا وتقوم بعض الأفران ببيع قسائمها إلى فرن أو تاجر آخر، أو عبر التهريب إلى سوريا عن طريق المعابر غير الشرعية، كما يشمل التحقيق بعض المطاحن التي يمكن ان تكون شريكة في هذه العملية المنظمة. فبعض المطاحن تستخدم قسماً من القمح المدعوم المخصص للخبز في صناعة الكعك والكاتو والخبز الافرنجي الذي يُباع بأسعار مرتفعة. وكان "فرع المعلومات" قدّم تقريرا الى رئاسة الحكومة والى المجلس الأعلى للدفاع حول كيفية التعاطي مع قسائم الطحين والتهريب والتخزين بالتفاصيل وأسماء التجار، وأصحاب الأفران والمطاحن والشركات والمستودعات الموجودة والمهربين. في الايام الأخيرة، إستدعىت النيابة العامة المالية المدير العام لمكتب الحبوب والشمندر السكري جرجس برباري وعددا من المسؤولين في وزارة الاقتصاد، واستمعت اليهم. ولم تستبعد مصادر "النهار" ان يقوم النائب العام المالي باستدعاء الوزير سلام، فيما طلبت النيابة العامة المالية التوسع في التحقيق.
وامس أكد وزير الاقتصاد خلال مؤتمر صحافي انه "ليس من مناصري دعم السلع، ولكن لبنان ليس الدولة الوحيدة التي تدعم السلع". ودعا إلى "عدم رمي الاتهامات من دون حقائق، والمطلوب ان تعمل الدولة والإدارات وفق الأصول". وأضاف: "فليتفضّل مَن يصوّب أصابع الاتهام، لمناقشة مواضيع التهريب على الحدود، والطوابير أمام الأفران تتألّف من عدد كبير من السوريين". وقال: "اليوم لا نستطيع مواجهة السارق والمهرّب وحدنا، والتقارير تقول ان التهريب وصل الى 40%". ولفت الى "وجوب ترشيد رفع الدعم، ومَن بيته من قشّ ووضعه هشّ لا يراشق الناس بكتل نارية"، مؤكدا ان "هناك فائضا بـ10 آلاف طن من الطحين قد سُرٍق، ونحن أتينا لننظف ما قمتم به في الادارات السابقة"، مضيفاً: "هناك مَن أدخل عصابات إلى داخل الوزارات". وإذ أّكد أنه يوجد الآن 20 ألف طن من الطحين في المطاحن، أشار الى ان "ربطة الخبز خط أحمر ولا أحد يُقرّر متى وكيف سيتم رفع الدعم، ومَن يبيع ربطة الخبز بـ20 و30 ألف ليرة هو حرامي وبيعرف حالو حرامي".
بالعودة الى أزمة الطحين، فالأسباب الرئيسية التي أدت إلى أزمة الخبز منذ بداية الشهر الفائت، لم تشهد حلولاً جذرية وتعود الى توقف المطاحن الكبرى عن العمل بداية شهر حزيران، واهمها "بقاليان" و"التاج" التي تزوّد 4 مطاحن القمح، وتوقف مطحنة البقاع عن العمل بداية حزيران كليا ما أدى إلى نقص حاد في كميات الطحين المسلّمة للافران، فتوقفت بعض الافران عن العمل وأخرى عملت بنصف طاقتها الانتاجية، ما يحتم على وزارة الاقتصاد توجيه اذونات التسليم الصادرة عنها الى المطاحن مباشرة لتحصل الافران كل بحسب كميته. وفي معلومات لـ"النهار" فقد عقد اجتماع في وزارة الاقتصاد ضمن الوزير سلام ومدير مكتب وزير الداخلية ومستشاره، وتم الاتفاق على وضع آلية لتعقّب عملية توزيع قسائم الطحين على الافران ومواكبة عملية تسليم الطحين من المطاحن الى الافران. وبحسب البيانات، تصل الى لبنان في 15 من الشهر الجاري باخرة تبلغ حمولتها 25 الف طن من الطحين.