محمد فحيلي، خبير مخاطر مصرفية وباحث في الاقتصاد
التركيز على أموال المودعين، دون أي شيء آخر، يخفي وراءه نوايا شيطانية...
إضافة إلى ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية والتكليف وتأليف حكومة اليوم لكي يكون لنا سلطة تنفيذية كاملة ومكتملة بالصلاحيات والواجبات، هناك استحقاق حاكم مصرف لبنان خلال أسابيع قليلة. أهمية هذه الاستحقاقات الدستورية هي أن لبنان يقف هذا العام أمام تحديات ترتبط بصياغة خطة تواجه الاضطرابات النقدية والمصرفية، من ضمنها فترة السماح التي منحتها مجموعة العمل الدولية (FATF) وتلتزم بالإسراع في تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي وتعمل على معالجة أزمة الطاقة. هذه الاستحقاقات كلها تستوجب وجود السلطتين التشريعية والتنفيذية مكتملتين.
هناك كم من القوانين والخطوات الإصلاحية التي سوف تكون الشغل الشاغل لمكونات السلطة السياسية، وكلها يصب في بحر القطاع المصرفي، لأن هذا القطاع كان ركيزة الاقتصاد اللبناني الأساسية لجهة تأمين السيولة المتوجبة لدعم نشاطات القطاع الخاص الإنتاجية. انتشر وتوسع مع لبنان الاغتراب ليبقي صلة الوصل مع الوطن الأم، وطور كوكبة من الخدمات المصرفية التي ساهمت في تحسين مستوى العيش لعدد كبير من اللبنانيين أصحاب الدخل المحدود. وأخيراً وليس آخراً، أمن السيولة المطلوبة لتمويل العجز في الموازنة العامة لسنوات عديدة (وليته لم يفعل!). لذلك نجد التركيز على القطاع المصرفي وودائع الناس.
قد يكثر الحديث في الأسابيع المقبلة، وخصوصاً بعد أن ينجح مجلس النواب بانتخاب رئيس للجمهورية، عن قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وقانون الكابيتال كونترول وتصويب ما أفسده تعديل قانون السرية المصرفية وقانون ودائماً "أموال المودعين" تكون نقطة تلاقي كل هذه القوانين. كثرت الاقتراحات والاجتهادات لجهة معالجة هذه المشاكل المترابطة والمتشابكة بمسبباتها وحلولها:
اطمئنان المودع على أمواله في المصرف هو رهن إعادة هيكلة القطاع المصرفي.
الحد من الخسائر في سياق إعادة هيكلة المصارف مرتبط عضوياً بقدرة الدولة على إعادة رسملة مصرف لبنان.
الموارد المتوفرة لدى الدولة حالياً تحدّ من قدرتها على إعادة رسملة مصرف لبنان.
تعزيز وتمكين الدولة لمعالجة الأزمة (أو الأزمات) الاقتصادية المتعددة الجوانب والأوجه هو رهن رغبنتها في (لأنها قادرة على) إقرار وتنفيذ الإصلاحات الضرورية والمطلوبة من صندوق النقد الدولي والدول المانحة.
الاستقرار والنمو في القطاع المصرفي يعتمدان على فعالية السلطة النقدية في إدارة الأزمة نقديةً كانت أم إقتصادية، المناخ الاستثماري في البلد، وطبيعة وحجم النشاط الاقتصادي. لذلك هناك عوامل كثيرة تؤثر على أداء المصارف وفاعليتها في تعبئة الودائع وتقديم الائتمان، وبالتالي دورها في تمويل النشاط الاقتصادي، لذلك سلامة عملياتها وصحة سياساتها تُعتبر من المقتضيات الأساسية لتطور ونمو الاقتصاد ذاته واستمرار استقراره وإمكانية تحقيق أهدافه. وليس من المستغرب الوقوف عند أداء النظام المصرفي اللبناني بشكل عام وتحديد دوره، وما هي العوامل المؤثرة عليه سلبا وإيجابا وذلك حتى نتفادى السلبيات ونُثمن الإيجابيات ونُحدد مواطن الخلل على المستوى النقدي.
الكلام عن النظام المصرفي في أي إقتصاد يتضمن عناوين كتمويل التنمية، الإدخار، الإصلاحات، الودائع المصرفية، الطاقة الإيداعية، الوعي المصرفي، الثقة، انتشار المصارف، الكثافة المصرفية، التطور المالي، الفاعلية. الفشل في الوصول إلى خاتمة حميدة في مقاربة الحلول للمشاكل التي يتخبط فيها القطاع المصرفي اللبناني يعود إلى الهدف الوحيد التي وضعته السلطة السياسية في مقاربة موضوع إعادة هيكلة ورسملة المصارف وهو "إنقاذ مكونات السلطة السياسية وإعفائها من مسؤوليتها في الفساد وهدر المال العام". لم يكن إنقاذ وإعادة الحياة وعافية الاقتصاد المحلي هدفاً لها أبداً.
"خطة التعافي المالي" التي أقرتها حكومة الرئيس ميقاتي (وهناك عدة متحورات منها) ليست الحل المطلوب لإنقاذ الاقتصاد اللبناني، وليست الحل الذي يعيد الحياة إلى القطاع المصرفي ويمَكِّنه من الاستمرار في خدمة الاقتصاد. الحلول متوفرة في العودة إلى تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 154 (تاريخ 27 آب 2020) الذي يحدد مكامن الضعف ويطرح آلية لمقاربة معالجة معظمها، ولذلك يجب أن يكون الممر الإلزامي لأي إصلاح للقطاع المصرفي. تهميش العمل بأحكام هذا التعميم من قبل السلطة النقدية ومن قبل المصارف ليست بصدفة، وغض نظر مجموعات حماية المودعين (حتى الحقوقين منهم) عن هذا التعميم هو أمر مقلق!
لماذا الحديث عن قانون إعادة هيكلة المصارف وإجراء تقييم شامل لأكبر أربعة عشر مصرفاً من قبل مكتب استشارات دولي في الشروط المسبقة للاتفاق المبدئي بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي في ظل وجود، أو من دون ذكر، التعميم الأساسي لمصرف لبنان رقم 154. يطلب المجلس المركزي لمصرف لبنان من المصارف العاملة في لبنان ضمن أحكام هذا التعميم:
أن يقوم، كل مصرف على حدة، بعملية تقييم عادل وشامل لموجوداته ومطلوباته تساعده على وضع خطة إنعاش وإنقاذ بغية تمكينه من الاستمرار في خدمة الاقتصاد الوطني.
أن يقوم كل مصرف بحثّ عملائه، الذين قام أي منهم بتحويل ما يفوق مجموعه 500 ألف دولار أميركي إلى الخارج خلال الفترة المبتدئة من 1 تموز 2017 حتى صدور هذا القرار. لرؤساء وأعضاء مجالس الإدارة وكبار المساهمين والإدارات العليا التنفيذية للمصارف وعملاء المصارف من الأشخاص المعرضين سياسياً (PEP) تُعْتَمد نسبة 30% بدلاً عن 15%. على ان يودعوا في "حساب خاص" مجمد لمدة 5 سنوات، مبلغاً يوازي 15% إلى 30% من القيمة المحوّلة. الحساب الخاص معفى من التوظيفات الإلزامية.
وحثّ المستوردين على أن يحوّلوا من الخارج مبلغاً يوازي 15% من قيمة الاعتمادات المستندية المفتوحة في السنوات 2017، 2018، 2019.
يمكن دفع فوائد على الحساب الخاص دون التقيد بسقوف. على أن يقوم كل مصرف باستعمال، بشكل أساسي، هذا النوع من الودائع لتسهيل العمليات الخارجية المحفّزة للاقتصاد الوطني.
أن يقوم كل مصرف بتكوين حساب خارجي حر من أي إلتزامات لدى مراسليه في الخارج لا يقل، في أي وقت، عن 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية.
على كل مصرف، وبنتيجة تقييم أوضاعه إفرادياً، أن يتقدم من المجلس المركزي لمصرف لبنان للاستحصال على موافقة على إعادة تكوين رأسماله و/أو زيادته، وفقاً للحاجة وبعد أن يكون قد أتمّ التقيّد بسائر النصوص القانونية والأنظمة المصرفية السارية.
يتعرض كل من يتقاعس عن تطبيق أحكام هذا القرار، ووفقاً للحالة، إلى أن تُفرض بحقه التدابير والعقوبات المنصوص عليها في القانون 44/2015 (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
وهناك الكثير من الإجراءات الأخرى التي يجب أن تعتمد في سياق إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتنظيم العمل فيه.
أوليس من الغريب والمستغرب بأنه لم يعطَ هذا التعميم أي أهمية من قبل أي من الأطراف المعنية بمعالجة الأزمة المصرفية! حتى "السلطة الرابعة" التزمت الصمت حيال هذا التعميم. باعتراف جمعية مصارف لبنان، جزء كبير من المصارف العاملة في لبنان عجزت عن الالتزام بأحكام التعميم الأساسي رقم 154 ولم تتحرك لجنة الرقابة على المصارف لأداء مهامها الرقابية وتحويل ملفات هذه المصارف إلى الهيئة المصرفية العليا لإجراء اللازم. وفق "خطة التعافي المالي" يجب أن تكون هذه المصارف غير قابلة للإستمرار بخدمة الاقتصاد المحلي ومواكبة مجريات الإنقاذ والتعافي الإقتصادي.
وأستطرد هنا للقول إن إعادة هيكلة مصرف لبنان لجهة فصل لجنة الرقابة على المصارف عنه يعزز من دورها الرقابي الذي نحن بحاجة ماسة إليه في هذه الظروف. الشيء ذاته ينطبق على هيئة التحقيق الخاصة التي ترعى مكافحة تبيض الأموال وتمويل الإرهاب.
في المقلب الآخر، أطل علينا تعميم مصرف لبنان الأساسي 150 زائراً غير مرحب به. هذا التعميم أسس لانطلاقة الحسابات المصرفية بالدولار "الفريش" وكان بمثابة الخطوة الأولى لمسيرة الهيركات (Haircut) وتحويل كل الحسابات بـ"الدولار المحلي" إلى حسابات متآكلة، قيمتها الدفترية تدنت دون قيمتها السوقية الحقيقية (Market Value) بشكل كبير وحاد وصل إلى حدود "شطب" هذه الودائع. وأنتج هذا التعميم سوقاً مربحاً لـ"تجارة الشيكات" تعزز ونشط بسبب غياب الرقابة من قبل لجنة الرقابة على المصارف في مصرف لبنان، وهيئة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد (وقد يقول البعض بأنها ليست السلطة صاحبة الاختصاص)، وانخراط بعض المصرفيين بقوة في هذا السوق للتخفيف من التزامات مصارفهم تجاه مودعيهم.
أما حديث البلد واهتمام المودعين والمصارف ذهب بالاتجاه المعاكس لينصب في تعاميم مصرف لبنان الأساسية ولكنها إجرائية وإستثنائية كما عنونها مصرف لبنان. إنها التعاميم 151 و 158 و 161 والتي تهدف إلى تفريغ المصارف من الودائع والمودعين، والتي تسببت بفائض من الضرر على القطاع المصرفي والمودعين والاقتصاد كله! كل هذه الاضطرابات النقدية (التقلبات في سعر صرف الليرة اللبنانية والضغوطات التضخمية) ولدت من رحم التعميم الأساسي رقم 150 الذي أحدث شرخاً عمودياً وكبيراً بين الدولار المحلي المقيّم في الحسابات المصرفية والدولار غير المقيّم بالفريش. إنه تعميم شطب الودائع المموّه لأن السلطة السياسية رفضت مواكبة ما قام به مصرف لبنان والإسراع بإقرار إصلاحات وتنفيذها! لهذا السبب وجد المودعون متنفساً عند صدور التعميم 151 لأنه أعطاهم وسيلة للوصول إلى أرصدتهم الدولارية. والشيء ذاته تكرر عند صدور التعميم 158 ونسي أو تناسى المودع من كان سبب المشكل. ويبقى غياب الدور الرقابي للجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة هو السبب الأساسي بتفاقم الأزمة المصرفية وتداعياتها الإقتصادية، ومن أهم ما في ذلك عدم إيلاء لجنة الرقابة على المصارف أهمية لتطبيق أحكام التعميم الأساسي رقم 154. هذا الواقع المر خلق مساحة إضافية لاستباحة أموال المودعين. أجهزة الدولة الرقابية (ديوان المحاسبة، التفتيش المركزي، ومجلس الخدمة المدنية) يحدد مكامن الهدر والفساد والخطأ ويطهر الدولة من الفاسد ويصحح الخطأ. الدولة ليست بفاسدة، بعض من هم في السلطة هم الفاسدون. الجهاز الرقابي في مصرف لبنان (لجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة) يحدد مكامن الخطأ والفساد ويطهّر القطاع المصرفي من الفاسدين ويصحح الخطأ. القطاع المصرفي ليس فاسداً، بعض من يدير هذه المؤسسات المصرفية هم الفاسدون.
وأيضاً بسبب تقاعس السلطة الحاكمة عن إقرار الإصلاحات اللازمة إضطر مصرف لبنان مجدداً إلى التصرف وأصدر التعميم الأساسي رقم 165 في 19 نيسان 2023.
الحديث عن التعميم 165 على أنه "كارثة" هو ظلم وإما جهل أو تجاهل لواقع الأمر في لبنان. وهناك الكثير من الإيجابيات في هذا التعميم:
يجفف ويخفف التبادل بالأوراق النقدية وقد يؤدي ذلك إلى تدني في الضغوطات التضخمية.
يضيّق المساحة على المضاربين والمحتكرين للتحكم بسوق القطع بالعملة الأجنبية ويخفف من الاضطرابات بسعر الصرف في السوق الموازي.
يخفف من مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وهذا ضروري لأن أعين مجموعة العمل الدولية على لبنان.
يساعد في تمكين وتفعيل العمل بوسائل الدفع المتاحة من قبل القطاع المصرفي كالشيكات، وبطاقات الدفع والإئتمان والتحويل ويعيد الحياة إلى قطاع فقد الكثير من حيويته. ويمنح مكونات القطاع الخاص يُسراً إستثنائياً في تسديد فواتيرهم.
ينفي الحاجة إلى اللجوء إلى طباعة أوراق نقدية من فئة الـ 500 ألف والمليون ليرة لبنانية وفق توصية اللجان النيابية في اجتماعها الأخير.
من الخطأ الكبير تقييم التعميم 165 بمعزل عن التعاميم الأخرى التي صدرت عن مصرف لبنان خلال سنوات الأزمة وكانت تستهدف إحداث إجراءات إستثنائية ولم تكن أبداً حلولاً. من أهم هذه التعاميم ذات الصلة هي الـ 150 و 157 و 161. وأيضاً من الخطأ تقييم هذا التعميم من دون التوقف عند أداء مكونات الطبقة السياسية.
ولكن بين الجهل والتجاهل اختنق الوطن والمواطن!