على بعد شهر ونصف تقريباً من أيلول، فُتحت معركة رئاسة الجمهورية، فبدأت سياسة حرق الأسماء من خلال الإصرار على طرحها بشكل متكرّر في البازار الرئاسي علّها تفقد رصيدها إلى حين الاستحقاق.
لا شك أنّ اسم قائد الجيش العماد جوزاف عون يتردّد باستمرار منذ زمن، خصوصاً أنه يملك مواصفات قد تخوّله ليكون محط توافق القوى السياسية عليه، فهو يمكن تصنيفه بأنه "فوق الاصطفافات والمحاور والأحزاب، ولا يشكل تحدياً لأحد".
ومنذ وصوله إلى قيادة الجيش، شكّل داخلياً محط تقدير من قبل بكركي، وعامل جذب للناس، وطمأنينة، حتى للقوى السياسية الذي كان على خصومة قديمة معها، وهو ما أظهرته أحداث الطيونة، عندما حمى قائد الجيش عناصره من جهة، ولم ينساق في خطة محاصرة "القوات اللبنانية" من جهة أخرى. وشكّل خارجياً عامل ثقة للغرب وفي طليعتهم، الولايات المتحدة الأميركية، إلى حدود تلقيه سهام الاتهامات على أنه متماهٍ مع السياسة الأميركية في لبنان.
ليس خافياً أنّ اللبنانيين بدأوا يتحسّسون من وجود رئيس عسكري في قصر بعبدا، خصوصاً بعد الحالة التي أوصل إليها لبنان عهدُ الرئيس ميشال عون، فيما معلوم أنّ التجربة التي يُشهد لها، والعهد الذي شهد على تغيّرات وتبدلات كان عهد الرئيس فؤاد شهاب عام 1952، وعهد الرئيس ميشال سليمان الذي حصلت فيه انتفاضة الاستقلال التي أخرجت الجيش السوري من لبنان.
قد يكون من المبكر الجزم بمن سيتبوأ منصب رئاسة الجمهورية، على ضوء التبدلات المتسارعة والتوازنات المتغيّرة في المنطقة، والخريطة السياسية التي أنتجتها الانتخابات البرلمانية الأخيرة في لبنان، معطوفة على الدور الحاسم الذي ستلعبه بكركي هذه المرة على مستوى تحديد شخصية الرئيس المقبل انطلاقاً من المواصفات التي حددتها. إلا أنّه ليس من المبكر انطلاق مرحلة الغربال السياسية للوصول في الوقت المحدّد وتحديد الرابح في الشطرنج الرئاسية.
في هذه المعركة، يُطرح اسم قائد الجيش، الذي طبعاً، وبحسب ما يُعرف عنه، أنّه لا يتوانى عن تحمّل أي مسؤولية وطنية تصبّ في خدمة الوطن والناس، وهو ما ثَبُت خلال قيادته للمؤسسة العسكرية التي جنّبها الصراع الداخلي، وشكّلت ولا تزال "التوازن الواقعي" الذي يمنع أي احتكاك أو فوضى أو أيّ صراع داخلي. وانطلاقاً من هذه المسؤولية والمناقبية، هو بعيد عن خانة الصراع على رئاسة الجمهورية، واهتماماته تنصب في هذه المرحلة على عسكرييه وضباطه، وكيفية الحفاظ على تماسك الجيش، الذي يبقى مهدّدا كأي مؤسسة من مؤسسات الدولة بالانهيار أمام حدّة الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تنهي لبنان.
تماسك الجيش أمام الضغوطات والانتقادات مهم في لبنان وسط الأجندات السياسية المختلفة على الساحة اللبنانية، التي تريده إما ضعيفاً أو تحت وصايتها. لكن الحصيلة ان مرجعية الجيش لطالما شكلت الثقة لكل الأطراف، ولعلّ الدليل الحسّي، دورها في مسألة ترسيم الحدود البحرية جنوباً، ونجحت في تثبيت دعائم الاستقرار والأمان لدى كل المكونات. وقائد الجيش، الذي خاض معركة فجر الجرود، وواجه أقسى التنظيمات تطرفاً، وإن كان بعيداً عن الانخراط في السياسة إلا أنه ليس بعيداً عن فهم اللعبة السياسية ووعورتها. ويعرف تماماً أن معركة رئاسة الجمهورية، لطالما كانت معركة توازنات إقليمية ودولية، وهذه التوازنات تحدّد من يكون الرئيس.
"الجيش صار شحاد". عبارة نسمعها باستمرار بشكل علني على لسان الناس، لكنّها عبارة مستفزة عندما تقال على لسان المسؤولين السياسيين. ويعلّق سياسي مخضرم في مجالسه، بالقول: "الجيش مش لوحدو صار شحّاد. الوطن بكاملو صار شحّاد". من هنا، لابدّ من صيانة الجيش وحفظ تماسكه، لأنه بانهيار الجيش، تنهار الدولة وينهار الكيان... وتنهار الرئاسة".