رولان خاطر
لم تكن الكنيسة المارونية يوماً مُجرّد مرجعية روحية في لبنان، والأهمية أنّ الجماعة المارونية لطالما كانت في مختلف المراحل صولجاناً متمرداً لحفظ مداميك وطن اسمه لبنان، ما أسهم في أن تكون الكنيسة المارونية مرجعية وطنية، غير حيادية بكلّ ما يتعلّق بلبنان كياناً ودولة.
وفي جولة عبر التاريخ اللبناني يمكن الاستشراف أنّه لطالما كانت المحطات المفصلية متأثرة بقرارات بكركي، ولطالما شكّل رأس الكنيسة المارونية مرجعية الوطنيين لأي فئة انتموا، والمثال على ذلك كان لقاء قرنة شهوان وبعدها حركة 14 آذار، ليُطلق على البطريرك الماروني الراحل مار نصرالله بطرس صفير بطريرك الاستقلال الثاني.
ولعلّ حجم الأخطار الكبرى التي تحدق بلبنان، يدفع بكركي لتكون حارس الوطن والجمهورية والدولة، ويجعلها وقت الخطر قوة سياسية وحتى شعبية إن دعت الحاجة. وهي جدلية تحدث عنها الأستاذ نقولا ناصيف بدراسة له وردت في أحد الكتب الفرنسية، تحت عنوان "بكركي: حتمية الدور أم عبء الخيار؟". مع العلم أنّ الموافقة مع وجهة نظر الكاتب أو عدمها أمر آخر.
حتمية الدور جعلت من مار نصرالله بطرس صفير قائد الاستقلال الثاني، والسدّ المنيع لقوى الاستقلال والسيادة. وبعيداً عن دوره في ولادة اتفاق الطائف، طبعت عهد صفير في البطريركية المارونية إنجازات أهمها، بيان المطارنة الموارنة عام 2000، رفضه زيارة دمشق رغم الضغوط والاغراءات، مصالحة الجبل التاريخية، وصولاً إلى ثورة الأرز.
فبكركي، أثبتت أنّه من الخطأ تصنيفها أنها تناصر هذا أو ذاك من الأحزاب أو القوى السياسية، هي لها مبادئ وثوابت، لا تحيد عنها، والأحزاب والقوى السياسية بقدر ما تكون متماهية مع هذه الثوابت والمبادئ بقدر ما تكون قريبة من بكركي وبطريقة عفوية أحياناً.
من هنا، تتوجه الأنظار في هذه المرحلة الصعبة والتاريخية من لبنان إلى بكركي، وما يمكن أن يفعله البطريرك بشارة الراعي حيال التحديات التي أغرق السياسيون فيها لبنان، ونحن على أبواب استحقاق رئاسي، من الطبيعي، لا بل من الواجب أن يكون للبطريركية المارونية الكلمة الفصل فيها، وهو ما يؤكد عليه عالمون بمجريات الصرح.
فالراعي لم يتحدث من فراغ عن مواصفات رئيس الجمهورية المقبل. ورفضه التلاعب باستحقاق الرئاسة يبعث برسالة إلى من يعنيهم الأمر أن الزمن ليس زمن تسويات، والمرحلة التي وصل إليها لبنان والشعب لم تعد تحتمل.
لذلك، كان لابدّ من أن تكشف بكركي عمّن تريده رئيساً جديداً للبنان. فحدّدت مواصفاته. ومن يقرأها، يتيقن من أن الراعي انتقى كلماته وعباراته، لسبب بسيط، لإنقاذ لبنان وشعبه، من كل أزمات تعرّض شعبه ووجوده وهويته للانهيار. لذلك، "رئيس بكركي"، هو المتمرّس، والمحترم والشجاع والمتجرّد، والوطني النزيه، هو رجل الدولة الحيادي في نزاهته والملتزم في وطنيّته. المصنّف فوق الاصطفافات والمحاور والأحزاب، ولا يشكل تحدياً لأحد، ويكون قادراً على ممارسة دور المرجعية الوطنية والدستورية والأخلاقية.
الكاتب السياسي سجعان قزي، يؤكّد لـ"النهار" أنّه كان لا بد للبطريرك من أن يعطي المواصفات المثالية لأيّ شخصية مارونية تطمح أن تتبوأ منصب رئاسة الجمهورية خصوصاً وأن أسماء كثيرة دون مستوى الرئاسة بدأ يتم التداول بها، ليس محبة بها، بل استخفافاً بمنصب الرئاسة في لبنان، لذلك أراد البطريرك أن يقطع الطريق على هذا الاستخفاف وأن يضع الأمور في نصابها، فلا يتقدم إلى هذا المنصب إلا الذي يتمتع بهذه المواصفات".
يؤكّد قزي أنّ "المواصفات التي وضعها البطريرك ليست لاستبعاد هذا المرشح أو تأييد ذاك، إنما هي معيار الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية، وهي المعيار لنجاح رئيس الجمهورية في مهمته. واذا كنا نرى الفشل في بعض العهود فلأن هذه المواصفات لم تكن متوفرة في بعض الذين شغلوا هذا المنصب الرفيع. هذه المواصفات تجعل من المرشح ليس رئيساً قوياً فحسب انما أقوى الأقوياء، وبغض النظر عما إذا كان يملك كتلة نيابية كبيرة أم صغيرة أو لا يملك هذه الكتلة. لقد رأينا رؤساء أتوا الى الرئاسة من دون كتل نيابية ونجحوا، ورأينا آخرين يمتلكون كتلا كبيرة وفشلوا، وبالتالي الصفة التمثيلية لرئيس الجمهورية لا تتوقف على عدد النواب والوزراء ورؤساء البلديات والمخاتير الموالين له إنما على ثقة الرأي العام به، وحالياً توجد شخصيات تملك كتلاً نيابية وتتمتع بهذه الصفات وشخصيات أخرى لا تملك كتلاً نيابية وتتمتع أيضاً بهذه المواصفات".
قزّي يحرص على تشريح كلام الراعي جيداً، ويقول: "هو لم يلغِ أحداً ولم يحيّد أحداً عن المعركة، إنما وضع مواصفات عليها توافق شعبي، لأنه حينما يتحدث البطريرك عن أمر لا ينطلق به من فراغ، بل من جوجلة مختلف الآراء والانطباعات التي ينقلها إليه زواره أكانوا من الشعب أو من المسؤولين أو من السياسيين أو من الدبلوماسيين".
وعما إذا كانت هذه المواصفات تنطبق على مرشح حزبي، يشرح قزي: "إذا حصل المرشح الحزبي على توافق حوله يصبح مرشحاً مقبولاً وليس مرشح تحدٍّ. وحين يقول البطريرك إنه يريد مرشحاً لا يشكّل تحدياً لأحد، لا يعني أنه يريد رئيساً من دون طعم ولا لون أو موقف ولا إرادة ولا قوة، إنما يريد الرئيس الذي يستفيد من دعم القوى السياسية له ليكون قوياً".
ولا شك، أنّ تحديد مواصفات الرئيس المقبل من قبل الراعي نفسه، هو كسر للصورة التي سادت، والتي اتُهم بها، منذ اجتماع الأقطاب الموارنة الأربعة في بكركي، ليؤكّد اليوم ما فسّره مراراً أنّ اجتماع الموارنة الأربعة لم يكن ليعني في قاموس بكركي اختزال هؤلاء للتمثيل الماروني والمسيحي، لذلك، أتت رسالته يوم الأحد مزدوجة، هو أكد أن في الشارع الماروني رجالات وأقوياء غير حزبيين يمكنهم ان يكونوا على قدر الطموح والتحدّي والمواجهة، كما لم ينفِ حق الزعماء الموارنة من الترشح إلى الانتخابات، فهؤلاء قادة أحزاب كبرى وغالبيتهم من المناضلين والمقاومين في سبيل لبنان. وفي الإطار، يلفت قزي إلى أنّ البطريرك ينظر إلى المسألة من منطلق ماذا يفيد لبنان في هذه المرحلة.
ويشدّد على أنّ "البطريرك لديه فكرة عن الشخصيات المناسبة لرئاسة الجمهورية، لكنّه لم يُسمِّ ولن يسمّي أيّا من الأسماء المدنية التي تم التداول فيها ونُسبت إليه. هو يحترم جميع المرشحين، وإن لم يسمّهم فلا يعني أنّه يعارضهم. ليس من الضروري أن تسمّي بكركي إنّما حكماً سيكون لها رأي حاسم في اختيار اسم الرئيس. لا تستطيع بكركي أن تكون خارج هذا الاستحقاق في وقت يمر لبنان في مرحلة بين الحياة والموت".
ورداً على سؤال، أكد قزي أنه "لا يوجد رسالة رسمية محددة وصلت الى الراعي من الرئيس نبيه بري، المسألة أنّ زائرا رسمياً كبيراً التقى البطريرك ونقل إليه هذا الكلام، ليس كرسالة من الرئيس بري إنما كما سمعه هذا المسؤول من بري إنه يتمنى أن ينجح في حصول الانتخابات الرئاسية في النصف الأول من أيلول".