أدّت الحرب في أوكرانيا إلى تحوّلات مفصلية أعادت تشكيل الأسواق العالمية، راسمةً واقعاً عالمياً وتموضعاً جديدين بين أوروبا والولايات المتحدة من جهة، وبين روسيا والصين وبعض دول الخليج من جهة أخرى.
منذ إعلان بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 شباط 2022، قفزت أسعار النفط بأكثر من 30 في المئة لتصل إلى حوالي 139 دولاراً.
ورداً على الحرب في أوكرانيا، فرضت دول الغرب عقوبات على روسيا استهدفت الأفراد الأثرياء والبنوك ومصالح الأعمال والمؤسسات المملوكة للدولة. فقد جُمّدت أصول البنك المركزي في روسيا، لمنعه من استخدام احتياطيه من النقد الأجنبي والبالغ 630 مليار دولار. وعُزلت البنوك الروسية الرئيسة عن نظام المراسَلة المالية الدولي "سويفت"، الأمر الذي من شأنه تأخير الدفعات لروسيا مقابل صادراتها من النفط والغاز، إلى جانب لائحة تطول من العقوبات.
لكن في ما يتعلّق بالعقوبات على موارد الطاقة أُعلن عن عقوبات تستهدف الصادرات الروسية، بحيث قال الاتحاد الأوروبي إنه سيحظر كافة الواردات من النفط التي تُستورد عبر البحر من روسيا بحلول نهاية 2022، وسيوقف وارداته من الفحم الحجري الروسي بحلول آب المقبل. أمّا الولايات المتحدة، ففرضت حظراً على كافة الواردات من النفط والغاز الروسيين. كذلك أعلنت المملكة المتحدة التوقّف التدريج لوارداتها من النفط الروسي بحلول نهاية 2022. وجمّدت ألمانيا خططها لافتتاح خط أنابيب رئيسي للغاز من روسيا.
لكن الاتحاد الأوروبي كان أقلّ عزماً لفرض عقوبات على الغاز الروسي، لأنه يعتمد عليه في تلبية حوالي 40 في المئة من احتياجاته من الغاز، إلّا أنّه أكّد أنّه سيخفض واردات الغاز بنسبة الثلثين خلال عام 2022.
لم يطل الردّ الروسي على العقوبات الغربية، ليأتي ضربة قاسية لدول الغرب، بإجراءين: فرض موسكو تسديد ثمن الغاز الروسي بالروبل لـ"الدول غير الصديقة"، إلى جانب وقف روسيا – المورِّد الأول للغاز إلى أوروبا (وعلى رأسها ألمانيا ومن بعدها فرنسا) – إمدادات الغاز إليها، ما ضيّق الخناق على القارة العجوز التي عانت من ارتفاع غير مسبوق بأسعار الطاقة، فقد أوقفت روسيا إمدادات الطاقة عبر خط أنابيب رئيسي "نورد ستريم-1" في خطوة رفعت احتمالات الركود وأشعلت تقنين الطاقة في بعض من أغنى دول المنطقة، وعلى رأسها ألمانيا، وتسبّبت بأزمة مؤلِمة رفعت تكلفة المعيشة للمستهلكين وزادت التكاليف على الشركات وأجبرت الحكومات على إنفاق المليارات لتخفيف العبء. كما قطعت روسيا الإمدادات عن بلغاريا والدنمارك وفنلندا وهولندا وبولندا تماماً، وقلّصت التدفقات عبر خطوط أنابيب أخرى.
وفيما أدّت القيود على إمدادات الغاز الأوروبية إلى ارتفاع أسعار بيع الغاز بالجملة أكثر من 400% منذ آب عام 2021، مع خفض موسكو الإمدادات عبر "نورد ستريم-1" إلى 40% من قدرته الاستيعابية في حزيران وإلى 20% في تموز الماضي، بذريعة مشاكل الصيانة والعقوبات التي تقول إنها تمنع إعادة معدّات وتركيبها، اتّهمت الحكومات الأوروبية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، باستخدام إمدادات الطاقة "كسلاح حرب".
وقد أصدر صندوق النقد الدولي تقريراً في تموز جاء فيه أنّ "تسبّب غزو روسيا لأوكرانيا بزيادة قتامة آفاق النمو العالمي، حيث يواجه اقتصاد أوروبا نكسة خطيرة بسبب روابطها التجارية والاستثمارية والمالية مع البلدين المتحاربين. وتعاني أوروبا حالياً من انقطاع جزئي لصادرات الغاز الطبيعي من روسيا، أكبر موردي الطاقة بالنسبة لها. وتثير احتمالات الوقف الكامل غير المسبوق مخاوف بشأن نقص الغاز، وارتفاع الأسعار المستمر، والتأثيرات الاقتصادية. ورغم سرعة تحرك صناع السياسات، فإنهم يفتقرون إلى خطة لإدارة التأثير وتقليصه".
وقال إينيس، الشريك الإداري لشركة "إس بي آي" لإدارة الأصول: "القول بأن سوق النفط مرتبكة هو تصريح أقل من الحقيقة، لأننا في وضع غير مسبوق". وزادت المخاوف بشأن إمدادات النفط والغاز من فواتير التدفئة المنزلية وأسعار الوقود في محطات التزويد. وسجّلت أسعار البنزين والسولار يوم الاربعاء أرقاماً قياسية في المملكة المتحدة.
أوروبا تتوجّه غرباً
نشر موقع "أويل برايس" تقريراً بأن الحرب الروسية في أوكرانيا والعقوبات على روسيا، قلبت سلسلة إمدادات النفط العالمية بأكملها رأساً على عقب، وتبحث الآن كل من أوروبا وروسيا، عن طرق أخرى للتوريد والتصدير. فبعد 3 أشهر من حرب أوكرانيا، استوردت أوروبا كمّيات قياسية من الخام الأميركي وخام بحر الشمال، وجذبت المزيد من براميل الخام من غرب أفريقيا؛ في محاولة من أوروبا لتقليل اعتمادها على النفط الروسي. وقال رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال إن الحزمة السادسة من عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا ستؤثر على الفور على 75% من واردات النفط الروسية، وبحلول نهاية العام الجاري، سيُحظر 90% من النفط الروسي الذي تستورده أوروبا.
وأشارت بيانات تتبع السفن التي جمعتها "بلومبيرغ" إلى أن الولايات المتحدة شحنت في نيسان أكبر كمّية من الخام إلى أوروبا (حوالي 1.45 مليون برميل يوميًا من الخام الأميركي في أيار) منذ أن رفعت الولايات المتحدة حظرها على صادرات الخام عام 2016، فقد استوردت أوروبا. وعملت نيجيريا وأنغولا على تعزيز صادراتهما إلى أوروبا، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النفط الخام النيجيري إلى مستويات قياسية أعلى من سعر خام برنت.
روسيا تتوجّه شرقاً
اشترت الهند والصين براميل الخام الروسية المخفوضة السعر، بحيث يمثّل المشترون الآسيويون فرصة روسيا لإعادة توجيه نفطها بعيداً عن أوروبا. وقد توجّهت الصادرات الروسية إلى الهند والصين لتحل محل جزء من خام غرب أفريقيا الذي ينقل عادة إلى الهند. وقالت شركة "بترو لوجيستيكس" إنّ "هناك زيادات كبيرة من الشرق الأوسط على حساب البراميل الأفريقية التي ذهبت بكميات متزايدة إلى أوروبا، كما أن روسيا تزوّد الهند بكمّيات قياسية".
أفادت بيانات "رفينيتيف ايكون" أنّ روسيا تزيد إمدادات البنزين والنفتا إلى أفريقيا والشرق الأوسط، وتستقبل آسيا كميات أكبر من الخام الروسي. ومن المرجَّح أن يؤدّي هذا التطور إلى زيادة التنافس على العملاء الآسيويين بين روسيا ومصدري الوقود الكبيرين الآخرين، وهما السعودية والولايات المتحدة، إذ إن الدول الثلاث هي أكبر الموردين لآسيا. وتم توريد ما لا يقل عن خمس شحنات تضم نحو 230 ألف طن من البنزين والنفتا في الفترة من أيار إلى حزيران من ميناء أوست لوجا على بحر البلطيق إلى سلطنة عمان وإلى مركز الفجيرة النفطي بالإمارات، وفقاً لبيانات "رفينيتيف". وبلغ إجمالي إمدادات النفتا والبنزين من الموانئ الروسية إلى عُمان والإمارات قرابة 550 ألف طن هذا العام مقارنة مع صفر في عام 2021 بأكمله.
أوروبا تتحرّر من الغاز الروسي
ومع مسار تحرّرها التدريجي من الغاز الروسي الذي بدأ بعد حرب أوكرانيا، وعلى أبواب الشتاء القارس، أعرب المستشار الألماني أولاف شولتس في تشرين الأول 2022 أنّ "ألمانيا حرّرت نفسها من التبعية (للغاز الروسي) ومستعدة للشتاء المقبل"، معلناً أنّ بلاده لديها ما يكفي من موارد الطاقة للأشهر المقبلة على الرغم من وقف توريدات الغاز الروسي. ولفت إلى أنه تم تجاوز نسبة مستوى الملء لخزانات الغاز التي تقدَّر بـ95%، وذلك عبر الغاز الذي يتدفق من فرنسا إلى ألمانيا، وعبر توسيع محطات الغاز الطبيعي المُسال بسرعة، فضلًا عن إنهاء عقود التوريد الجديدة واتخاذ قرار بتمديد مؤقت لعمل ثلاث محطات نووية باقية.
تحديد سقف لسعر النفط الروسي
في إطار عقوبات جديدة تستهدف موسكو، فرضت دول مجموعة السبع بداية الشهر الجاري، حدّاً أقصى لسعر النفط الروسي عند 60 دولاراً للبرميل "لحرمان روسيا من الاستفادة من حربها العدوانية على أوكرانيا". ويعني ذلك أن النفط الروسي، الذي جرى شراؤه بما لا يتجاوز 60 دولاراً للبرميل، سيُسمح فقط بشحنه على ناقلات مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي. وتجعل هذه الخطوة من الصعب على موسكو بيع نفطها بسعر أعلى، لأن العديد من شركات الشحن والتأمين الكبرى موجودة داخل مجموعة الدول السبع. وقالت روسيا، ثاني أكبر منتِج للنفط الخام في العالم، إنها لن تقبل فرض سقف للأسعار، وهدّدت بوقف تصدير النفط إلى الدول التي ستتبنّى هذه الإجراءات.