يشهد قطاع الإيجارات السكنية طلباً متزايداً في ظل عدم قدرة المواطن على شراء شقة ولا سيما مع غياب القروض السكنية التي كانت توفّرها المصارف مع تراجع قدرة المواطن الشرائية. ومع تعدّد أسعار الصرف، تحوّلت معظم عقود الإيجار إلى عقود بالدولار، بما فيها الإيجارات الـ"براني" غير المصرَّح عنها، بينما لا تفلح التسويات مع بعض المستأجرين الذين لا يدفعون إيجاراتهم (بالليرة) ولا يخلون الشقق، متذرّعين بالقانون، ومردّدين كلمة "بلّطوا البحر".
هكذا تغيّر مسار إيجار الشقة التي تسكنها رولا، موظّفة في القطاع العام. تروي لـ"النهار" أنّ إيجار الشقة كان يبلغ قبل الأزمة 400 دولار أي ما كان يعادل 600 ألف ليرة لبنانية، وهي شقة مكوَّنة من 4 غرف. مع استفحال الأزمة رفع صاحب الشقة الإيجار إلى 1500000 ليرة وبدأت الزيادات بقيمة الإيجار أواخر عام 2021 ومع بداية عام 2022. في أواخر العام المنصرم، تحوّل إيجار شقة رولا إلى الدولار كاملاً، ليصبح حالياً 250 دولاراً في الشهر.
نقيب المقاولين مارون الحلو وفي حديثه لـ"النهار"، يؤكد أنّ هناك "هجمة" على استئجار الشقق السكنية بغياب إمكانية التملّك سواء نقداً أو عبر القروض السكنية التي كانت توفّرها المصارف، فيما أسعار الشقق هي بالدولار الفريش. لذلك، فإنّ سوق الإيجار انتعش ولا سيما في مدينة بيروت، بسبب ارتفاع تكاليف النقل الباهظة من خارج بيروت إلى بيروت، ففي هذا الإطار، يفضّل الناس السكن في بيروت والانتقال من السكن في الجبل لتوفير هذه التكلفة، وهذه الظاهرة تنتشر بين موظفي القطاع الخاص عامة، بحسب الحلو.
وعن قيمة الإيجارات حالياً، فإنّها تُبنى على أساس قيمة الشقة الحالية والحقيقية. فمثلاً، إن كان سعر شقة ما يبلغ 250 ألف دولار، يكون الإيجار ما نسبته 3 إلى 5 في المئة من قيمتها. كذلك، فإنّ قيمة الإيجار، وفق الحلو، تخضع للعرض والطلب وليس هناك قاعدة تحدّد القيمة الفعلية للإيجار.
وقيمة الإيجارات يجب أن تُحتسب على قيمة الشقة الحالية والفعلية لا على قيمتها ما قبل الأزمة. فعلى سعر الدولار الفريش مثلاً، الشقة التي كان سعرها مليون دولار قبل الأزمة، أصبح الآن سعرها 400,000 دولار، بالتالي، احتساب الإيجار على سعر 400 ألف دولار، انخفض عمّا كان عليه قبل الأزمة إذا ما احتسبناه على مليون دولار.
وعن الإيجارات القديمة وكيف تُستوفى حالياً، فيعيدها الحلو إلى تصرّف المستأجر، فالقانون لا يعطي صاحب الملك حقّه. فهناك مستأجرون لا يزالون يدفعون الإيجار على سعره القديم أي على 1500 ليرة. وهناك مستأجرون آخرون عدّلوا إيجارهم مواكبةً لسعر ارتفاع الدولار، وغيّروا من قيمتها لعدم إلحاق الإجحاف بحق صاحب الملك.
أمّا في ما يتعلق بالإيجارات الجديدة التي كانت عقودها مبرَمة بالليرة، فقد تحوّلت غالبية هذه العقود إلى الدولار، فأصحاب الملك لا يرضون سوى التأجير بالدولار. وفي غياب القانون، تقام تسوية بين المالك والمستأجر لكن هذا الأمر لا ينسحب على جميع المستأجرين.
تسويات بأشكال مختلفة
رئيسة تجمّع مالكي الأبنية المؤجَّرة في لبنان المحامية أنديرا الزهيري، في حديثها لـ"النهار"، توضح أنّ الشقة التي كان إيجارها حوالي 400 دولار على سعر 1500 ليرة، يصل إيجارها حالياً إلى حوالي 150 دولاراً فريش، أو يطلب صاحب الملك نصف القيمة بالفريش دولار والنصف الآخر بالليرة، أو على سعر "صيرفة"، أو على سعر 15000 ليرة. لكن معظم أصحاب الشقق في الإيجارات الجديدة باتوا يسعّرون بالدولار الفريش. هذا في ما يتعلّق بعقود الإيجار الجديدة.
أمّا بالحديث عن عقود الإيجار القديمة، فيتقاضى بعض المستأجرين "الخلوّ" ومستأجرون آخرون يستغلّون القانون لمصلحتهم ويقولون لصاحب الملك "روح بلّط البحر"، تردّد الزهيري، مؤكّدة أنّ "هذه العبارة نسمعها كثيراً في هذه الأيام".
ولعدم اللجوء إلى القضاء وانتظار الإجراءات القضائية طويلاً، تنتهي التسوية بتسديد الخلوّ للمستأجر ويراوح بين 500 و1000 دولار فريش، ويسلّم بذلك المستأجر الشقة لصاحبها، و"من غير المنطقي أن يُسدَّد الخلوّ بالدولار الفريش" وفق الزهيري.
وهناك حالات من مستأجرين لا يدفعون الإيجار ولا يخلون المنزل أبداً، حتى مع الإيجارات الجديدة، فالخلل الذي لحق بالجسم القضائي ولّد طمعاً لدى الناس في قطاع الإيجارات السكنية. كما أنّ فقدان الثقة بالدولة وبالعملة الوطنية وباللبنانيين بعضهم بين بعض، أدّى لأن يفضّل صاحب الملك تأجير شقّته للأجنبي الذي يدفع له بدل الإيجار بالدولار دون إبرام عقود ولا تسجيله أو التصريح عنه، وهذا بحد ذاته له بُعد اجتماعي أمني، بحسب الزهيري، فالمالكون الجدد يخافون أن يحلّ بهم ما حلّ بالمالكين القدامى في ما يتعلّق بتغيير سعر الصرف في العقود المبرَمة.
وعن الوضع القانوني للمستأجر الذي لا يدفع الإيجار ولا يخلي الشقة لصاحبها، هو "إشغال دون مسوِّغ شرعي"، تقول الزهيري، فغياب الرقابة ينتج مثل هذه الحالات، ويؤدّي إلى فوضى في طرق إبرام عقود الإيجار.
وتتنوّع المخالصات بين تسويات واستردادات ودفع تعويضات وأحكام قضائية قضت بإخلاء بعض الشقق. ويتوصّل المالك والمستأجر حالياً إلى "تسوية حبية" تخفض من قيمة الإيجارات بالدولار الفريش. وهناك تسويات تقوم على تسديد بدل الإيجار على سعر 15 ألف ليرة لسنة فقط، ريثما تستقرّ الظروف الاقتصادية.
وتوضح الزهيري أنّ الطلب على استئجار الشقق يزداد ازدياداً هائلاً مع تراجع قدرة الناس على شراء الشقق إلى جانب النزوح الكثيف الذي شهدته مدينة بيروت من سكان المناطق الجبلية لكي يستقروا ويسكنوا إلى جانب عملهم، بهدف توفير كلفة النقل الباهظة. في المقابل، انخفض عدد المستأجرين القدامى.