أحمد محمد قاسم
متخصص في القروض المتعثرة والمخاطر المصرفية
مما لا شك فيه ان هذه المشكلة لن تجد طريقها إلى الحل بين ليلة وضحاها، فجائحة كورونا والحرب السورية وما تبعها من إقفال للحدود وأزمة المصارف واحتجازها لودائع الناس والتضخم الهائل وانخفاض قيمة الرواتب وإقفال العديد من المصانع والشركات والمطاعم والمؤسسات التجارية كلها عوامل ساعدت في تفاقم مشكلة القروض المتعثرة، التي تحتاج إلى مدة لا تقل عن سبع سنوات على الأقل حتى تستطيع المصارف اللبنانية تجاوزها ووضع الحلول لها؛ وبالطبع فإن الحلول مشروطة باستقرار سياسي يساعد على الاستقرار الاقتصادي.
تعتبر عملية تحصيل الديون أو القروض المصرفية المتعثرة من أهم العمليات التي تحظى باهتمام إدارات المصارف التقليدية والإسلامية وكذلك المصارف المركزية، وذلك لأن القروض المتعثرة تقف حجر عثرة أمام تقدم الاقتصاد الوطني إذا كانت نسبتها مرتفعة، لأنها تحرم هذا الاقتصاد من دوران تلك الأموال في العملية الاقتصادية. من هنا، فإن المصارف التقليدية والإسلامية عمدت إلى إنشاء إدارات مركزية وفرعية مهمتها متابعة القروض المتعثرة بهدف معالجتها وتخفيضها إلى الحدّ الذي لا يهدّد مصالح المصرف.
والسؤال التالي ما هي الحلول التي سوف تلجأ إليها المصارف لتحصيل قروضها المتعثرة في ظل الوضع الراهن وتوقف القضاء عن العمل؟
تعمد المصارف إلى معالجة قروضها المتعثرة بعد تشخيصها وتقييم وضعها ودرجة تعثرها أو المرحلة التي استقرت عليها، ففي حال وجدت أن المقترض قادر على تجاوز الصعوبات التي أدت إلى تعثره، وكانت لديه النية والإرادة لتحقيق ذلك، وكانت لدى المصرف مصلحة في ذلك، فإن الحل سوف يكون بالتسوية الودية وهي الطريقة المثلى لكلا الطرفين؛ فالتسوية الودية تشكل نظاماً مقرراً في البدء لحماية المقترض المتعثر من جهة، ولحماية المصارف من جهة ثانية. أما إذا لم تجد المقترض قادراً على المتابعة في التسديد، وكانت ضماناته كافية لتسديد القرض بالسرعة التي يتطلع إليها المصرف فإنها سوف تعمد إلى التحصيل عن طريق التصفية القضائية.
فالمصارف تتميز بمهنية وكفاءة، وتمتلك إمكانيات كبيرة وعالية في معالجة القروض المصرفية المتعثرة، حيث تعمد إلى اتخاذ الإجراءات القانونية مباشرة عند تحقق التعثر تحصيلاً لديونها المتوجبة على المقترض المتعثر فيما لو كانت الأمور لصالحها، فهي تقوم بدراسة وضعية العميل لدى المصارف الأخرى ومدى التزامه بالتسديد، وكذلك دراسة وضعية عقاراته عن طريق طلب إفادات عقارية جديدة كلما لزم الأمر، بالإضافة إلى دراسة وضعه الضريبي، كما تقوم بالتأكد من مدى ملاءة العميل من خلال زيارته في مكان عمله؛ كل ذلك يعطي المصرف فكرة واضحة عن الطريق التي سوف يسلكها؛ فإذا وجدت موقفها ضعيفاً لجهة عدم كفاية الضمانات فإنها بالطبع سوف تلجأ إلى نظام التسوية الحبية لمعالجة القرض المتعثر.
ولكن ما هو تعريف التسوية الحبية؟
تعرف التسوية الحبية: "على أنها لجوء المصرف إلى مساعدة عملائه المتعثرين بصفة مطلقة عن طريق منحهم تسهيلات أو امتيازات خاصة بهدف تخطي أزمة العسر المؤقتة".
وعرّف البنك الدولي التسوية الودية للديون أو تسوية الديون خارج المحاكم بأنها "ترتيبات تعاقدية خاصة غير قضائية بين المدين ودائنيه كلهم أو بعضهم".
وتتم التسوية عن طريق إبرام عقد جديد بين المصرف والمقترض المتعثر، فيعتبر نظام التسوية الودية ذو طبيعة تعاقدية، أساسه الإرادة التعاقدية لكل من المصرف والعميل، ويهدف عن طريق اتخاذ جملة من الإجراءات الوقائية إلى مساعدة المدين المتعثر للنهوض بعمله ومتابعة تسديد قرضه بالطرق الحبيّة من دون اللجوء إلى القضاء.
وممّا لا شكّ فيه أنّ التعامل مع الديون المتعثرة يتطلّب مهارة وكفاءة عالية في المعالجة والتحصيل، وأيّ خلل في ذلك سوف يقود إلى تعثر عملية التحصيل مع ما يتبعها من خسارة للمصرف الدائن وللاقتصاد الوطني.
يتضمن نظام التسوية الودية إجراءات لا بدّ من اتباعها من أجل تحصيل القرض وهي:
1 - البدء بالتصال والمقابلة بين الدائن والمدين. فالمطالبة بالديون المتعثرة تبدأ أولاً من خلال الطرق الودية أو التسوية الودية. تعتمد تلك الطرق على توافر المعرفة الكافية في التفاوض ودراسة الحالات والتعامل بأقصى درجات ضبط النفس مع الدائن، وذلك حتى يتمكن المختص المفوّض بالتحصيل من دراسة وضع المدين، ووضع خطط التحصيل المتوافقة مع حالته؛ وهنا يعمل المصرف على إعداد الصياغة التي تضمن الاتفاق على تسوية وديّة بين المصرف والمدين، تتضمن سداد كامل الدين، ولو عبر أقساط محدّدة، حتى وإن طالت مدة السداد؛ فالهدف الأساسي من التسوية الوديّة هو عدم خسارة المدين، وعدم اللجوء للقضاء إلا في أضيق الظروف حتى لا تكون الخسارة كبيرة بالنسبة للدائن.
ومن ناحية أخرى، لا يمكن أن تؤدي التسوية الودية في الأغلب إلى حصول الدائن على كافة حقوقه، ولكن مقابل التنازل عن بعضها، وهذا الأمر في حال كانت الديون معدومة، وهو أمر جيّد لما قد ينهي عملية تحصيل الدين دون اللجوء إلى مرحلة التقاضي.
2 - توافر الرضا بين المدين والدائن، سواء توافر هذا الرضا بشكل شفهي أو كتابي، كما يمكن أن يكون ضمنياً.
3 - التسوية الودية تتطلّب كافة الأركان الواجب أن تتوافر في العقود بصفة عامة: الرضا، الموضوع، السبب، الأهلية.
عملياً، لم يعد اللجوء إلى القضاء بالأمر المفضّل لدى المصارف لحلّ مسألة الديون المعثرة، حيث إن القضاء ما زال من أبطأ الوسائل لتسوية المنازعات بسبب تعقيد الإجراءات وطول المواعيد، وهو ما قد يكون ضاراً لكلا الطرفين اقتصادياً، كما أن وجود فراغ تشريعيّ في بعض التشريعات قد لا يؤدي إلى حلّ النزاع القائم. ولكن الأهم هو أن عملية التقاضي تتم بعلانية، وهذا قد يضرّ بمصلحة الأطراف في الكشف لدى منافسيهم عن سريّة التعاقدات والتعاملات المبرمة بينهم، ولا يضمن القضاء استمرار العلاقات الوديّة بين الأطراف.
وفي إحصائية للبنك الدولي بشأن المدّة التي قد يستغرقه النزاع والقيمة التي يتمّ تحصيلها من الدين أمام القضاء أشارت الإحصائية للآتي:
الاقتصاد التكلفة (%من قيمة المطالبة) المدة (الوقت بالأيام)
الإمارات 21 445
السعودية 27,5 575
الأردن 31,2 642
لبنان 30,8 721
مصر 26,2 1010
والسؤال الأخير ما هي أبرز الطرق التي تؤدي إلى التسوية الودية؟
1 - التفاوض المباشر:
تُعدّ المفاوضات أفضل الوسائل لتسويه المنازعات المدنية والتجارية والاستثمارية، لأنّ الأصل أن العقود يتمّ إبرامها عن طريق التفاوض والذي يؤدّي إلى توافق إرادة الأطراف على إحداث أثر قانونيّ معين؛ فإنه من باب أولى أن يتم فضّ المنازعات الناشئة عن هذه الاتفاقات والعقود وإيجاد حلول للخلافات والديون المتعثرة أيضاً بالتفاوض. فالمفاوضات تعدّ أكثر الطرق وأسرعها للوصول إلى تسوية ودية، إذ إنها تضمن مراعاة ظروف كلّ طرف، وتضع شروطاً وحقوقاً والتزامات يقبلها جميع الأطراف قبل حسم التسوية، فتضمن بذلك الوصول لحلّ مشكلاتهم وتسوية منازعاتهم في إطار من الودّ الضّامن لاستمرار علاقاتهم على عكس اللجوء للمحاكم التي يصعب معها استدامة أيّ علاقات.
2 - الوساطة
في حالة فشل المفاوضات، إمّا لوجود خلافات شخصيّة بين الأطراف أو بسبب عدم الفهم من قبل أحد الأطراف أو الأخذ في الاعتبار اعتبارات ومصالح الطرف الآخر، هنا نكون بحاجة إلى طرف محايد يعمل على تقريب وجهات النظر واقتراح حلول مبتكرة للنزاع القائم بين الأطراف وهو دور الوسيط.
تُعدّ الوساطة من أفضل وسائل التسوية الودية للمنازعات حتى أن معظم الدول المتقدّمة تعتمد عليها بشكل رئيسي في الوصول للتسوية. وتشير الإحصائيات العالمية مثلاً إلى أنّ نحو 80 في المئة من المنازعات في الولايات المتحدة تتمّ إحالتها إلى الوساطة، وأن ما يقرب من 80 في المئة من عمليات الوساطة تنجح في الوصول لتسوية ودية بين الأطراف، ممّا يؤكد فاعلية وجدوى الوساطة في الواقع العملي. وسبب اللجوء إلى الوساطة أنّها لا تحمل طابع الإلزام للأفرقاء، وتحفظ العلاقات الودية بين الأطراف، وتعتبر من أقلّ الوسائل من حيث التكلفة على الدائن والمدين.
وفي الختام، أريد الإشارة إلى أن مشكلة القروض المتعثرة لم تظهر إلى العلن بعد، لأن أغلب المصارف مشغولة بالأرباح الخيالية التي تحققها بوساطة صيرفة، وهي تعمد إلى تعزيز هذه الديون عن طريق تكوين مؤونات لها تحسّباً لسنوات القحط المقبلة.