تخطى اللبنانيون جميع الحواجز النفسية لأسعار الصرف وصولاً إلى السعر القياسي الذي بلغ 50000 ليرة مقابل الدولار في اليومين الماضيين. صحيح أنّه سعر كالأسعار السّابقة واللاحقة (وفق المعنيّين)، وسيُشكّل خضّة لا أكثر لدى اللبنانيين الذين تكيّفوا مع الأزمة، وبات الأهمّ في حياتهم اليومية تأمين أساسياتهم أقلّه، بعدما تُركوا لمصيرهم.
لكن السؤال الذين نبحث عن إجابة له هو كيفيّة تقبّل الأفراد أسعار الصرف المختلفة من الـ47 والـ48 والـ49، واستغرابهم الـ50 ألف ليرة؟ ماذا يشكّل مبلغ الـ1000 ليرة لبنانية من فرق؟ هل من علاقة نفسيّة بين سلوك الفرد والأرقام؟
"الأرقام الكاملة لها دائماً تأثير نفسيّ على الفرد؛ فحتى في استراتيجيات التسويق، تُستخدم هذه التقنية لجذب الزبون". هذا ما تقوله الخبيرة الاقتصادية الدكتورة ليال منصور في حديثها لـ"النهار". "إن رقم 49000 يختلف في ذهن الناس عن الـ50 ألفاً، وإن كان الفرق يبلغ ألف ليرة فقط بين السّعرين. وبعد الـ50 ألفاً، يعتاد الناس على الـ51 والـ52 وصولاً إلى الـ60 ألفاً ليشعروا بالخضّة، وكذلك الأمر عند كلّ رقم كبير".
واقع الأمر، وجزء من هذا الاعتياد يعود إلى أنّ شريحة كبيرة من اللبنانيين يتقاضون جزءاً من رواتبهم بالدولار، أو ينفقون من تحويلات ذويهم إليهم من الخارج، بحسب منصور. وحالياً، مَن هو قادر على شراء أقلّ حاجيّاته لا يشعر بحاجة إلى رفض سعر الصرف الذي يرتفع. وتؤكّد منصور أنّه في حال تدخّل مصرف لبنان للجم سعر الصرف، فقد ينخفض بنحو 5000 ليرة، قبل أن يعود بالتأكيد إلى الارتفاع ضمن مساره صعوداً.
ومنذ أوائل الأزمة، توقّعت منصور وصول الدولار إلى 160 ألفاً، و"هو سعره الطبيعيّ، واللبنانيون سيعتادون كسر الحواجز النفسيّة جميعها حتى الـ160 ألف ليرة".
وعن تجاوز الأفراد للحواجز النفسية مع تقلّبات أسعار الصرف خلال الأزمات، تشرح منصور بأن هناك مظاهر تدلّ على تجاوز هذه الحواجز، تتجلّى باستبدال السّلع الباهظة بالرّخيصة؛ كذلك فإنّ نمط الحياة يتغيّر، ونوع المحالّ، في ظلّ ظهور محالّ الـoutlet أو الشّعبية، وتكثر السّلعة ذات النوعيّة الرديئة. ولا تختلف المطاعم في هذا السياق، إذ تقلّ نسبة الفاخرة منها. أمّا السيّارات المستعمَلة فهي التي باتت مفضّلة لدى الكثيرين...
وتُعيد منصور سبب تقبّل الناس سعر الدولار المتصاعد إلى ما يُسمّى في علم الاقتصاد بـresistant price أو السعر المقاوِم، إذ يبقى سعر الصرف يحوم حوالَي حدود معيَّنة لا يتخطّاها؛ وعندما يتخطّاها يرتفع بشكل كبير، ثمّ يصحّح نفسه بنفسه ويعاود الانخفاض بشكل بسيط. والسعر المقاوِم هو نوع من تقبّل لسعر الصّرف، وعندما نتخطّاه، ندخل في ما يُسمى بالـmimitic effect حين يجد الفرد نفسه في حالة من الخوف، من دون القدرة على تفسير سبب هذا الخوف. حينها، ينجرّ وراء تصرّفات أفراد آخرين يتصرّفون بخوف أيضاً، بفعل تأثير التقليد، ومن دون معرفة سبب تقليدهم ذاك.
وقد كسر اللبنانيون جميع حواجز أسعار الصرف السابقة، وسيكسرون اللاحق منها، فهم تعايشوا مع الأزمة ولو بصعوبة، وفق منصور. وتتذكر أنّه خلال هذه الأزمة، مررنا بأسعار مقاوِمة عديدة لأسعار الصرف، وهي الـ3000، 15000، 30000، 34000. لكن بعدها، لم يعد هناك أسعار مقاوِمة فعلاً، وأصبحت أسعار الصرف كلّها متشابهة لدى المواطنين.
قد يعود السعر المقاوِم إلى كميّة العرض والطلب في سوق القطع.
للأرقام تأثيرها النفسي...!
"للأرقام تأثير نفسيّ على دماغ الفرد"، تقول المعالجة النفسية الدكتورة كارمن حريق في حديثها لـ"النهار". فشراء سلعة بـدولار و99 سنتاً يختلف عن شرائها بدولارين. فدماغ الشخص يرى أوّل الرقم لا تسلسله، وهنا يكمن تأثير الأرقام! لذلك، مع كلّ رقم يتغيّر بشكل كبير، سيشهد الأفراد خضّة، قبل أن يعتادوا على الأرقام المرتفعة التي ستليه.
لماذا هذا الاعتياد بالرغم من صعوبة الظروف؟ تجيب حريق بأنّ الإنسان بحاجة إلى التكيّف مع الوضع الذي يعيشه، وهذا يدخل في باب حماية ذاته. لكن هناك أشخاصاً يستطيعون التكيّف، فيما يعجز غيرهم عن ذلك، ويدخلون في أزمات نفسية. وكلّما استطاع الفرد التكيّف مع الوضع، يحظى بدافع للاستمرارية، تجنباً لوقوعه في أزمه لا يعرف منتهاها.
وعن تجاوز اللبنانيين لأسعار الصرف اللاحقة وفق توقعات الاقتصاديين، تشرح حريق بأنّ القدرة المادية هي التي تحدّد ذلك. فانخفاض هذه القدرة سيدفعه إلى أزمات نفسية كالقلق والاكتئاب والإحباط وصولاً إلى الانتحار. وبذلك، نستنتج أنّ كثيرين من الذين لا سبيل لهم إلى تحسين أوضاعهم يعانون من حالات كهذه، لكنّهم لا يظهرون ذلك علناً.
ترى حريق أنّنا بحاجة إلى ثورة جديدة أمام تقبّل الوضع الحالي. لكن الثورة بحاجة إلى قائد. فالناس جرّبوا ثورة 17 تشرين لكنّهم أُحبطوا، لأنّها لم تكن على قدر توقّعاتهم؛ لذلك فإنّهم لا يلجأون إلى الانتفاض، وفقدوا الحماس والدافع السّابقين. أمّا الآن، فكلّ فرد يحاول إيجاد الخلاص فردياً.
استراتيجيات نفسيّة للأسعار
التسعير النفسيّ هو استراتيجية تسعير تسويقية تعتمد على النظرية القائلة بأن أسعاراً معيّنة لها تأثير نفسي أكبر على المستهلكين من غيرها. في هذا الإطار، نشر موقع Entrepreneur استراتيجيات نفسيّة للتسعير النفسيّ لروّاد الأعمال في عالم التسويق، ينطبق أوّلها بشكل كبير على الحالة اللبنانيّة.
هذه الاستراتيجيات هي استراتيجية "التسعير الرائع"، حيث يعالج الدماغ 3.00 دولارات و2.99 دولاراً كقِيَم مختلفة: بالنسبة إلى عقلك 2.99 من الدولارات مبلغ يساوي 2.00 دولاراً، وهو أرخص من 3.00 دولارات.
لذا، إذا كنت ترغب في زيادة مشترياتك من منتجات وخدمات، فقم بتحويل الأرقام الصفريّة إلى تسعة. يمكن العثور على مثال لهذه الاستراتيجية على موقع Apple على الويب، حيث ينتهي سعر كل منتج بالرقم 9.