النهار

عمال في لبنان يخضعون لـ"عبودية" الأجر والمعيشة... البحث عن وظيفة لا تنهي صلاحية الأمل
المصدر: "النهار"
عمال في لبنان يخضعون لـ"عبودية" الأجر والمعيشة... البحث عن وظيفة لا تنهي صلاحية الأمل
يقف كثر حائرين في السوبرماركت أمام الارتفاع الجنوني للأسعار. (تعبيرية- أرشيف "النهار").
A+   A-
نعمت كريدلي
 

"الراتب لا يكفي لشراء كل السلع الأساسية لتأمين القوت اليومي"، لسان حال العمال والموظفين في المراكز التجارية في مدينة صور، جنوب لبنان.
الأزمة الاقتصادية- السياسية التي عصفت بلبنان منذ العام 2019 اقتلعت جذور الأمن الاقتصادي لأغلب شرائح المجتمع، خاصة الطبقة العاملة. إذ فقدت الرواتب والأجور قيمتها الشرائية في ظل التدهور المستمر لقيمة الليرة اللبنانية مقابل سعر صرف الدولار في السوق السوداء، فبات العمال والموظفون في قطاع المتاجر الغذائية عاجزين عن حفظ سلامتهم الاقتصادية وملزمين بقبول بدائل مادية منتهية الصلاحية بسبب عجز الدولة اللبنانية عن رفع الحد الأدنى للرواتب والأجور أو تطبيق أي خطوات إصلاحية من شأنها الحدّ من التدهور الاقتصادي على المستويات كافة، فحوالي 80% من اللبنانيين باتوا يعيشون تحت خط الفقر. وقد وصف البنك الدولي أزمة لبنان الاقتصادية بأنها من أسوأ الأزمات التي يشهدها العالم منذ أكثر من 150 عاماً، وتترافق مع شلل سياسي يحول دون اتخاذ تدابير تحدّ من تدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين، وهي أزمة لم تشهدها البلاد حتى إبان الحرب الأهلية بين 1975 و1990، ويترافق ذلك مع استمرار عجز الطبقة السياسية عن الاستجابة لمطالب صندوق النقد الدولي بضرورة إدخال إصلاحات طارئة مختلفة، من بينها توحيد أسعار الصرف مقابل تطبيق خطة مساعدة بقيمة ثلاثة مليارات دولار أميركي تصرف على أربع سنوات.
أزمة لبنان الاقتصادية، وفق الكثيرين، ليست وليدة العام 2019، ومن دون شك، ساهمت الخيارات السياسية والإقتصادية التي اتخذها المسؤولون في إدارة الدولة ومرافقها وقطاعها المصرفي في تعزيز التدحرج نحو الهاوية، التي كان رئيس البلاد ميشال عون قد وصفها بأن اللبنانيين ولبنان "ذاهبون إلى جهنم".

لنتخيّل هذين المشهدين.

المشهد الأول:
الزمان: 2019، المكان: سوبرماركت في لبنان. موظف يدعى نضال (وهو شخصية رمزية تجسد معاناة أربعة عمال في سوبرماركت جنوب لبنان) براتب 500 دولار أميركي (الدولار الواحد في ذلك الوقت يساوي 1500 ليرة لبنانية) في الشهر، يرتب بعض السلع الغذائية ويضع عليها ملصقات الأسعار عندما كان الدولار يساوي 1500 ليرة لبنانية (ربطة خبز 1500 ليرة، عبوة المياه لتر 1000 ليرة، كيلو أرز 3000 ليرة، زيت القلي 3 لترات 20000 ليرة).
يغرق نضال في هموم اليقظة وهو منهمك في عملية التسعير الروبوتية: "راتبي يكفيني فقط لتأمين حاجاتي الأساسية. من الجيد أنني أستفيد من التغطية الصحية، لكن كيف سأستطيع تأسيس عائلة أو شراء منزل؟! يا إلهي، إنه عبء ثقيل!". "لو سمحت، أين أجد عبوات الزيت؟ أريد شراء العبوة الأكبر"، تقطع زبونة في السوبرماركت حبل همومه، وتعيده إلى واقع التآلف مع الحد الأدنى للبقاء على قيد أمل.

المشهد الثاني:
الزمان: 2022، المكان: سوبرماركت في لبنان. الموظف نفسه، نضال، براتب شهري يبلغ 100 دولار أميركي، يرتب السلع ويضع ملصقات الأسعار حسب سعر الصرف في السوق السوداء، حيث قيمة الدولار الأميركي الواحد تساوي 35000 ليرة لبنانية تقريباً (ربطة خبز 16000 ليرة، عبوة المياه لتر 15000 ليرة، كيلو أرز 44000 ليرة، زيت قلي 3 لترات 250000 ليرة).
يدور في رأس نضال مئة سؤال وسؤال: ماذا سأقول لأمي اليوم وقد طلبت مني شراء الأرز؟ البارحة اشتريت الزيت والخبز والماء، لا قسائم شرائية ولا بدل نقل ولا تغطية صحية، وأبي يحتاج الى دواء السكري. ماذا سأفعل؟!". "أعطني لتراً واحداً من الزيت لو سمحت بأقل سعر ممكن"، صوت أحد الزبائن انتشله من آلته الحسابية وأعاده الى واقع التآلف مع الانهيار.
هذه المشهدية ليست مقتبسة من فيلم خيالي، بل لقطة رمزية تمثّل معاناة أغلب العمال والموظفين في لبنان. الموظف في أحد المتاجر في صور ب. ك. يمثل أحد جوانب شخصية نضال، وهو يعمل 9 ساعات يوميّاً براتب يقارب المئة دولار شهريّاً من دون أي امتيازات. يحتاج ب. ك. الى شراء دواء بقيمة مليوني ليرة لبنانية شهريّاً (حوالي 60 دولاراً أميركيّاً بسعر الصرف الحالي) لأحد أفراد عائلته المصاب بالسكري، أي حوالي 60% من راتبه، وبالطبع، لا يستطيع تأمينه، لأنه يدفع حوالي 40% من راتبه مصاريف تنقلاته من وإلى مكان عمله.

يعود نضال إلى المنزل على دراجته النارية المتعطشة الى الوقود، يجلس مستنزَفاً من ساعات العمل الطويلة. راتب بالكاد يكفي للوصول إلى مكان العمل مع تهديد شبه يومي لقيمته الشرائية مع التدهور المستمر لسعر الليرة اللبنانية مقابل سعر صرف الدولار في السوق السوداء، وحرمان من التغطية الصحيّة والبطاقات التموينية. كل هذا الاستعباد الاقتصادي يلخصه ب. ك. في بضع كلمات تجسد معاناة آلاف العمال والموظفين في لبنان. إن خطورة غياب السلامة الاقتصادية للعمال تكمن في تبعاتها النفسية والاجتماعية، مثل ازدياد نسبة العنف ومعدل الجريمة والأمراض النفسية والعصبية.
ومع التدهور المستمر لقيمة الليرة اللبنانية مقابل سعر صرف الدولار في السوق السوداء، يؤكد الموظف ب. ك. أن راتبه في السوبرماركت لم يرتفع قط منذ خمسة أشهر حتى الآن.
إضافة إلى ذلك، أكدّ ثلاثة موظفين وعمال من جنسيات متنوعة يعملون في مراكز تجارية مختلفة في مدينة صور أن رواتبهم ارتفعت بشكل ضئيل جدّاً، وهي بالكاد تكفي للوصول إلى مكان العمل مع انهيار مستمر للقيمة الشرائية لليرة اللبنانية، وقد رفضوا الكشف عن هوياتهم أو حتى تسجيل مقابلة خوفاً من طردهم من عملهم.
وبالرغم من تخصيص قسيمة شرائية لأحد العمال بقيمة خمسين دولاراً تقريباً في أحد السوبرماركتات، ما زال راتبه لا يتعدّى المئة والخمسين دولاراً، مع العلم أن الراتب يُعطى بالليرة اللبنانية، ويفقد من قيمته الشرائية يوماً بعد يوم بسبب الانهيار المستمر لليرة اللبنانية.
يستيقظ نضال في اليوم التالي، وتستيقظ معه همومه التي أوهمته أنها نامت، يعيد تسخين الشاي الذي حضّره بالأمس، يشربه بسرعة مع قطعة من الكعك بعد أن تأكد أن الخبز مقطوع من الأسواق. "متى سينتهي هذا الكابوس؟! ألا يوجد أي إجراء جدّي يحسن أحوالنا؟ لقد تعبت، لكن سأذهب إلى العمل!".

وصل نضال إلى السوبرماركت، ارتدى ملابس العمل وبدأ بترتيب السلع متناسياً عبارة "القيمة الشرائية"، آملاً بالحصول على "قسيمة شرائية".
وكردّة فعل قانونية على تدهور القيمة الشرائية للرواتب والأجور، قدم المحامي جهاد ذبيان دعوى قضائية بحق المسؤولين عن الانهيار في الدولة والمصارف اللبنانية بتهمة "صرف النفوذ واستغلال الوظيفة والفساد وتبييض الأموال والاستيلاء على الثروة العامة الكائنة في الوحدات النقدية اللبنانية والإفلاس الاحتيالي"، التي تهدف إلى استرداد الأموال المنهوبة والثروات العامة، وتلك المتعلقة بالودائع المستولى عليها والمهربة إلى الخارج. لكن مرّ أكثر من عام على تاريخ تقديم الدعوى لدى النيابة العامة المالية، ولم يتم اتخاذ أي إجراء قضائي بحجز أموال الفاسدين من سياسيين ومصرفيين، حسب المحامي ذبيان.

مشهدية العامل الغارق في أروقة السوبرماركت يلغي المعلبات تارة ويشطب الزيت تارة أخرى من قائمة احتياجاته كي لا تبتلع الأسعار مرتبه، تجسد يوميات أغلب العمال والموظفين في لبنان. هذه المشهدية يجب أن تحفز المسؤولين الوطنيين في مختلف القطاعات على إتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة للحدّ من تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تهدد أمن العمال والموظفين في لبنان.
يقول المحامي ذبيان إن رفع الحد الأدنى للرواتب والأجور حاليّاً "سيؤدي إلى إفلاس القطاع الخاص"، لكن مجلس النواب اللبناني يمكنه تعديل قانون العمل وتفعيل ما يسمى "هرم الأجور"، أي أن المؤسسات التي تحقق أرباحاً بالدولار أو حسب سعر الصرف في السوق السوداء، مثل المراكز التجارية، يجب أن تخضع لقانون عمل خاص يملي عليها الالتزام بتحقيق السلامة الاقتصادية للموظفين والعمال، بحيث تحفظ القيمة الشرائية للرواتب والأجور.

هذا التعديل، حسب ذبيان، يجب أن يعتمد على النظرية اليابانية في العمل، التي تتمثل في جعل "الأجير شريكاً بحصة محدّدة من أرباح الشركة أو المؤسسة".
لبنان كان قد وقّع على اتفاقيات مكتب العمل الدولي التي توجب الحفاظ على الحد الأدنى للمعيشة، لكن الدولة اللبنانية لم تلتزم بها حتى الآن، فبات نضال شخصية تنمو في لاوعي كل عامل وموظف يعمل من أجل البقاء فقط.
يناضل نضال من أجل الحصول على عمل لا ينهي صلاحية الأمل. "لو سمحت، أين أجد غطاءً للسرير، وكم ثمنه؟"، تسأل زبونة العامل نضال المنهمك في تسعير السلع الغذائية. "تجدينه في الطابق العلوي، وثمنه راتبي!".
 
*نشر بالتعاون مع "أريج" 

مواضيع ذات صلة

5/27/2022 12:00:00 AM
إعلان

الأكثر قراءة

كتاب النهار 11/22/2024 3:23:00 AM
المنطقة وسط أجواء أو تفاعلات حربية مع هوكشتاين ومن دونه، لذا ليس في جعبته ما يعطيه للبنان، كما ليس لأي أحد ما يعطيه للفلسطينيين في هذه الظروف والمعطيات.

اقرأ في النهار Premium