النهار

القطاع العام يرهق خزينة الدولة... أين مجلس الخدمة؟!
المصدر: "النهار"
القطاع العام يرهق خزينة الدولة... أين مجلس الخدمة؟!
تعبيرية.
A+   A-
رولى راشد
 
جاء في مقولة معروفة للصحافي والناقد البريطاني جورج أوريل "في زمن الخداع والتحايل يُصبح قول الحقيقة فعلاً ثورياً".
 
"أدّت الأزمة الاقتصادية العالمية إلى تفاقم المشكلة في منطقة تعاني أعلى معدّلات البطالة بين الشباب في العالم، وهي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا... ويمضي هذا بالتوازي مع معدّلات هائلة من التوظيف الذي يتّسم بتدنّي القيمة المضافة، ومع قطاع عام ما زال في معظم البلدان مصدراً لأغلب الوظائف في القطاع الرسمي. وأصبح التعامل مع هذه المشكلات والتحديات أولوية رئيسية للسياسات أمام كلّ حكومات المنطقة تقريباً"، وفق البنك الدولي.
 
ويشير إلى أنه "في العديد من بلدان المنطقة، يبقى القطاع العام هو المصدر الأول للتوظيف حيث يضطلع بتعيين بين 14 و40 في المئة من إجمالي العمالة. وقد تكدّس العديد من المؤسسات الحكومية بالموظفين، وغالباً ما يحصل موظّفو الحكومة على أجور أعلى من القطاع الخاص. وتشكّل الأجور الحكومية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو 9.8 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وهي أعلى نسبة في العالم. في الوقت نفسه، نعلم من التجربة أنّ الوسيلة الرئيسية لخلق الوظائف هي النمو الذي يقوده القطاع الخاص كما نعلم أن ارتفاع معدلات التوظيف الحكومي يعوق الاستثمار في القطاع الخاص.
 
وفي مواجهة بيروقراطيات مترّهلة، وفي الأغلب عاجزة، فضلاً عن تضخّم فواتير الأجور، وصلت الاستراتيجيّات التقليدية لاستغلال التوظيف في القطاع العام كوسيلة لامتصاص الطلب الفائض على العمل إلى أعلى نقطة... وستقتضي إعادة التوازن في التوظيف بين القطاعين العام والخاص إحداثَ تغييرات كبيرة في السياسات وفي القطاع العام. ومن القضايا الرئيسيّة التي يمكن النظر إليها نظام التوظيف في القطاع العام، والذي أصبح عقبة أمام النمو الاقتصادي".
 
يدفع العديد من الخبراء بأن التكاليف المقترنة بالتركيز العالي للوظائف في القطاع العام سيؤدي على الأجل الطويل إلى تدنّي النمو الكليّ لعوامل الإنتاج.
 
في الواقع، المشكلة موجودة في لبنان حيث تفوق تكلفة زيادة أجور موظفي القطاع العام خدمة الدين اللبناني. عدد العاملين في القطاع العام وصل إلى ما يناهز 280 ألفاً، بعد خروج عدد كبير منهم لبلوغه السنّ القانونية. أما تكلفة رواتبهم السنوية على خزينة الدولة فأصبحت بحدود 22 ألف مليار ليرة بعدما كانت 12 ألف مليار ليرة. وهذه التكلفة المرتفعة تشكّل نسبة 86 في المئة من إجمالي واردات الدولة اللبنانية البالغة نحو 14 ألف مليار ليرة.
 
في تقرير سابق، لفتت "الدولية للمعلومات" "الى الصعوبات الموجودة في القطاع العام بـضخامة عدد العاملين، فقبل أي زيادة يجب خفض عدد العاملين إلى النصف تقريباً، وهذا الأمر مستحيل في ظل الأوضاع الحالية وعدم توافر فرص عمل وارتفاع في نسبة البطالة"، معتبرة أن "أي زيادة لا توازي قيمة التضخّم الحاصل تكون دون جدوى".
 
في المقابل، لا تستثني توصية صندوق النقد الدولي للبنان بتخفيض حجم القطاع العام، كشرط من شروط التعافي. هذا القطاع، الذي أتخم في السنوات الأخيرة بتوظيفات سياسية وانتخابية شاركت فيها كلّ القوى السياسية من دون استثناء، سيكون في خطر، وأكثر المستهدفين هم الفئة التي جرى توظيفها بشكل مُخالف للقانون الرقم 46 (سلسلة الرتب والرواتب) الصادر في آب 2017، والتي تنصّ المادة 21 منه على "منع جميع حالات التوظيف والتعاقد، بما فيها القطاع التعليميّ والعسكريّ بمختلف مستوياته واختصاصاته، إلا بقرار من مجلس الوزراء بناءً على تحقيق تجريه إدارة الأبحاث والتوجيه".
في أيّ مرفق هناك فائض في القطاع العام؟ وأيّ المرافق تعاني من الشواغر؟
هل موظفو القطاع العام هم حقاً مغبونون في رواتبهم؟ ما هو الحلّ؟
 
الأسمر
يوافق رئيس الاتحاد العمالي العام الدكتور بشارة الأسمر "على أن عدد العاملين في القطاع العام هو بحدود 280 ألفاً، وهذا طبعاً مع كل القطاعات العسكرية حيث النسبة الأكبر منهم". أما في ما خصّ الرواتب، فبرأيه "هناك من يقول إنّ قيمتها تصل إلى نسبة 86% من مداخيل الخزينة اللبنانية، فيما البعض الآخر يقول، إنه بحكم الواقع، القسم الأكبر من العاملين في القطاع هم مغبونون".
 
ويقول لـ"النهار": "إذا نظرنا إلى القطاعات العسكرية لوجدنا أن هناك حاجة ملحّة إلى عدد أكبر من جيش، وقوى أمن، وأمن عام وأمن دولة، خصوصاً في الظروف الحالية. يأتي بعدهم المتقاعدون من القوى العسكرية الذين خدموا الدولة بكلّ أمانة وإخلاص على مدى عشرات السنين، ولهم تعويضاتهم وتقاعدهم. وهذا لا مفرّ منه.
وهناك أيضاً العاملون في المصالح المستقلّة والبلديّات والمستشفيات الحكومية والمؤسّسات العامة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن ثمّة نقصاً كبيراً، لاسيما في البلديات مثلاً حيث يتم اللجوء إلى مسمّيات مختلفة مثل التعاقد اليوميّ، أو غبّ الطلب، أو عمّال المتعّهد أو العامل بالساعة... وهذا ينطبق على المستشفيات الحكومية والجامعة اللبنانية حيث يتم التعاقد، ويصبّ كل هذا التوظيف تحت خانة ما يُسمّى "إجار خدمة". كذلك الأمر نفسه في كل من مؤسسة كهرباء لبنان ومرفأ بيروت.
 
كذلك هو الأمر بالنسبة للمؤسسات العامة؛ فمثلاً يشكو كلّ من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أوجيرو، الريجي...إلى جانب بعض الوزارات من نقص في الموارد البشرية. وهي تكاد تتّوقف عن الخدمة بغياب العدد الكافي من العناصر البشريّة.
 
لقد ساهم في تفاقم هذا الواقع انهيار سعر صرف الليرة، وكاد راتب الموظّف في القطاع العام لا يكفيه لأيّام محدودة مع انعدام قدرته الشرائيّة، ممّا دفع القسم الكبير من الموّظفين، لا سيما الفنيّين، ممن يمارسون عملاً محترفاً ومتخصّصاً، إلى الاستقالة.
 
طبعاً، وصفة صندوق النقد الدولي تتعارض مع ضعف الموارد البشرية الذي يجسّد الواقع. فالمرفق العام الذي يشكو من الفائض هو القطاع التربوي، وهنا يمكن الاستعانة بمن هم في هذه الخانة لسدّ الفراغ في سائر الوزارات، الإدارات العامة والمصالح المستقلة، والمؤسسات العامة.
 
صحيح، لقد تمّت التوظيفات السياسية والانتخابية داخل المؤسسات العامة بطريقة عشوائية ومخالفة للقوانين، لكونها بحدّها الأدنى غير مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببعض المؤسّسات العامّة أو الشركات في المصالح المستقلّة التابعة للقطاع العام بل هي ملحقة به.
 
وبالرغم من ذلك، فإنّ المحاسبة على هذه التوظيفات لا يُمكن أن تطبّق على مَن تمّ توظيفه، وأصبح يملك ارتقاباً اقتصادياً، ويعتاش من هذه الوظيفة، بل على من وظّفه بطريقة غير قانونية .
 
إن إقرار سلسلة الرتبِ والرواتب اقترن بإصلاحات عديدة أدرجت في 15 مادّة، كانَ أبرزها نصُّ المادةِ 21 من القانونِ بمضمونِها المتشعِّب، وهو وقف جميعِ حالاتِ التوظيفِ والاستخدام مهما كانت تسميتها، في جميعِ أجهزةِ القطاعِ العام، بما فيها السلكانِ التعليمي والعسكري.
للأسف، جرى التوظيف أحياناً بطريقة عشوائية ومخالفة للقوانين، ولذلك ندعو إلى إخضاع جميع هؤلاء إلى امتحانات مجلس الخدمة المدنية تمهيداً لتوظيفهم طبقاً للقوانين، عوضاً عن الاستغناء عنهم وتعريض أمنهم الاجتماعي والاقتصادي للخطر.
 
كما ذكرت، الفائض موجود في القطاع التربوي، إنما باقي القطاعات فيعاني من الشغور الوظيفي. وأصبح الواقع يفرض تحميل الخزينة العبء واللجوء بين الحين والآخر إلى طبع العملة النقدية لتسديد الرواتب والأجور وتمويل حاجات الدولة من دون مداخيل.
 
وفي المقابل، هناك إضرابات طويلة في القطاع العام. فإذا أخذنا مثلاً الدوائر العقارية فهي لا تستوفي أيّ شيء من الرسوم بفعل الإقفال وعملية المحاسبة الجارية اليوم. فالدوائر العقارية والمالية وغيرها في إضراب كامل أو مستقيلة من عملها، نتيجة ظروف معيّنة وعدم تمكّن الموظفين من الحضور إلى مراكز أعمالهم بسبب الغلاء الفاحش وارتفاع اسعار المحروقات. لذلك، لا يجب أن نكون جازمين في عملية التعاطي مع كل المرافق في القطاع العام، لا سيّما أن هناك استثناءً في القطاع التربوي والتعليمي الذي يشكو من عشوائية التوظيف بعدما تجاوزت الأرقام الحاجة الفعلية. وفي إطار الحلول، هناك إمكانية للاستعانة بهذا الفائض في قطاعات تعاني من بعض الشواغر مثل الكهرباء، الضمان الاجتماعي، البلديات، أوجيرو، مرفأ بيروت".
 
برأيه: "يتم تحميل القطاع العام أكثر من طاقته؛ وليست المشكلة في الفائض، ولا في سلسلة الرتب والرواتب التي أقرّت في العام 2017. المشكلة هي في عدم تمويل هذه السلسلة، وبغياب رؤية اقتصادية واضحة، وغياب مصادر تمويل، التي بالرغم من إقرارها لم يُعمل على تفعيلها بالشكل المناسب لسدّ هذه الثغرة. باختصار، القطاع العام ليس بخير، وليس بحاجة إلى صرف عمّال إنما إلى ملء النقص الملحوظ في بعض المرافق".
ّ
الرواتب في العام والخاص!
 
أمّا في ما يتعلّق بالرواتب التي تجاوز معدّلها - وفق العملية الحسابية - الرواتب في القطاع الخاصّ فيعتبر الأسمر "أن هذا ليس دقيقاً، لأنه في القطاع الخاص أعطيت الرواتب بناء على الاتفاقات التي تمّت بين الاتحاد العمالي العام والهيئات الاقتصادية، والمبنية على إلزامية التصريح عنها وعن ضريبة الدخل للمالية والاشتراكات إلى الضمان الاجتماعي، علماً أن البعض يلجأ إلى دفتري حساب، أحدهما يُكشف عنه فقط للدولة وللضمان.
لقد أتت مذكرات وزارة المال التنفيذية في إطار المواد 27 و33 و35 من قانون الموازنة بمحاولة لضبط التهرّب من التصريح الفعلي عن الرواتب المدفوعة كلياً أو جزئياً بالدولار الأميركي.
وفي غضون ذلك، نحن ضد أن تطال الإجراءات الضريبية بطريقة أو بأخرى أصحاب العمل أو العمال. فهي إجراءات مجحفة، ولكن ما تجب الإشارة إليه هو أن هناك البعض في القطاع الخاصّ ممن يدفعون الرواتب بالدولار، ولا يصرّحون عنها لضريبة الدخل وللضمان الاجتماعي.
 
التصريح الكامل بالأجر والرواتب وملحقاتها مع كلّ الزيادات كان نتيجة الاتفاق الذي تمّ بين الاتحاد العمالي والهيئات الاقتصادية، عكس ما يحصل في القطاع العام اليوم، حيث يُعطى بمعدّل ضعفي أساس الراتب الشهريّ أو أساس الأجر أكان يوميّاً أو بالساعة، أو أساس المعاش التقاعدي الذي أقرّ في عام 2019، من دون أية زيادة مهما كان نوعها أو تسميتها على أن يُسدّد تحت ما يُسمّى بالمساعدات الاجتماعية. وبالتالي، لا يدخل في التعويض كما هو في القطاع الخاص. ولا بدّ من الإشارة إلى أن كلّ الموظفين والعاملين في القطاع العام بمن فيهم القوى العسكرية يتقاضون رواتبهم وتعويضاتهم على أساس سعر الدولار 1500 ليرة. وهذا يشكّل كارثة فعلية على استمراريتهم".
 
بعدما نخرت الفوضى والزبائنية كلّ مرافق الدولة لتعطّل خدماتها، برزت أخيراً ملفات فساد ورشوة قيد التحقيق، فيما تعلو بين الحين والآخر أصوات العاملين في القطاع العام مطالبين بحقّهم في زيادات غلاء المعيشة التي لن تتمكّن من مواكبتها أي مشاريع تصحيحية للرواتب والأجور لا تكون علمية.
 
وها نحن فريسة عقل الدولة البعيد عن الحكمة، الذي يستسهل الحلول بفرض الضرائب والرسوم لتسيير الأمور، بغض النظر عمّا يؤجّج في تدابيره من غضب يُحرّك العودة إلى الشارع ويُشعل بالغضب الحاقد النفوس.
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium