النهار

الحكومة تتفنّن بلُعبة الموت... الحدّ الأدنى للأجور سيرتفع لـ"48 ساعة" فقط والضمان الاجتماعي يُعادل التأمين الصحي
المصدر: "النهار"
الحكومة تتفنّن بلُعبة الموت... الحدّ الأدنى للأجور سيرتفع لـ"48 ساعة" فقط والضمان الاجتماعي يُعادل التأمين الصحي
تعبيرية.
A+   A-
كارلا سماحة
 
تشتد الأزمة، ويشتد معها الخناق على السلطة العاجزة، فتلجأ إلى المسكّنات بدل المعالجات العلمية. آخر الابتكارات، النيّة لتمرير بند في جلسة مجلس الوزراء المقرر عقدها يوم الاثنين المقبل في العاشرة صباحاً، يتعلّق بتعديل الحدّ الأدنى للأجور.
 
هذا الإجراء، يعني أن الرواتب على الليرة فقدت قيمتها بشكل كبير، وهو جلي وثابت اليوم مع الفوضى في سعر الدولار، الذي تخطى في الأيام الأخيرة الـ140 ألف ليرة. علماً أن الإشكالية المطروحة، تتعلق بمدى المنفعة التي تدرّها الزيادة على الرواتب في ظل عدم الاستقرار المالي والنقدي وحتى الاقتصادي؟ فيما هناك عدة أسئلة ترتبط بجوهر القضية، يمكن اختصارها كالآتي:
 
أولاً، في حال إقرار التعديل على الأجور، أليس من الطبيعي السؤال عن مصادر تمويل هذا التعديل، في ظل استمرار إضراب الموظفين في القطاع العام، وفي ظل غياب الجباية والضرائب؟
 
ثانياً، هل تلتزم حكومة تصريف الأعمال بشروط الزيادة وتأثيرها على المالية العامة، أم سنكون أمام سلسلة رواتب جديدة، بمعنى أمام قضية متفجرة، إمّا تكون من دون ترجمة، وإمّا تسرّع في مسار الانهيار وصولاً إلى الانفجار؟
 
ثالثاً، معلوم وجود ارتباط بنيوي بين رفع الحد الأدنى للأجور ومعيار التضخم. وإقرار التعديل على الأجور يتطلب بالحالة التي يمر بها لبنان مزيداً من طبع العملة، بما يعني مزيداً من التضخم. وارتفاع نسبة التضخم ألا يعود بنا إلى الإشكالية التي طرحناها، عن مدى ايجابية هذا الطرح على المواطنين وعلى السوق؟
 
رابعاً، ما هو الطريق الأسلم لتحقيق العدالة في الرواتب اليوم؟
 
إشكالية الزيادة
يقول البروفسور مارون خاطر الكاتب والباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة لـ"النهار" إن "الحُكومات المُتَعاقبة دَرَجَت على إدارة المَلَفّ المالي بطريقةٍ عَبَثيَّة لا تستند إلى النظريات الاقتصادية ولا حتَّى إلى المنطق. ليست سلسلة الرتب والرواتب الأخيرة والقفز فوق قطع الحِساب وغياب الموازنات أو حضور أشباهها إلا أمثلة حيَّة على هذه الفوضى الماليَّة التي طبعت تاريخ لبنان الحديث. انطلاقاً مما تَقَدَّم، لا يُمكن تصنيف ما تقوم به الحكومة الحاليَّة منذ أن كانت أصيلة إلى اليوم إلا في هذا السّياق. فما شهدناه على يد هذه الحكومة مُخجل على كل المستويات. ليست الموازنة المِسخ، وخطة التعافي المؤسفة وقانون الكابيتال كونترول الراسب دوماً في امتحانات التقييم من قبل صندوق النَّقد إلا دلائل قاطعة تؤكد ما نقول. قبل الحديث عن زيادة الحد الأدنى للأجور، لا بد من الإشارة إلى أن موازنة ٢٠٢٢ وكل ما تلاها من مساعدات للقطاع العام لم ترتكز على رؤية اقتصادية واضحة تؤمن التوازن بين الإيرادات المتهاوية والنفقات المتزايدة.
ارتكزت فذلكة الحكومة في مقاربتها لموضوع الإيرادات على زيادة الدولار الجمركي وعلى رفع سعر الصرف الرسمي وكلاهما لا يشكل مرتكزاً حقيقياً للإيرادات. فالدولار الجمركي لا يُنتج إلا إيرادات دفترية حين يسجل الاقتصاد نمواً سالباً وحين تكون الحدود فالتة. أما زيادة السعر الرسمي للدولار فلا حاجة للتكلم عنه بعدما وصل سعر صرف الدولار في السوق الموازية إلى أضعاف أضعافه".
 
ويضيف خاطر: "إن أي زيادة للحد الأدنى للأجور تعتمد مصادر التَّمويل الدفترية التي ذكرناها ليست إلا مغامرة جديدة وفصلاً جديداً من مسرحيات الجنون المستمرة منذ ٢٠١٩ إلى اليوم. أن تفكر سلطةٌ في رفع الأجور حينما يكون الاقتصاد بجميع قطاعاته منهاراً كما العملة، وحينما تكون الدولة غائبة، وميزان المدفوعات معطلاً، والاقتصاد نقدياً، وإنتاجية القطاع العام مصدر مساءلة، يدفعنا لاعتبار هذه السلطة فاقدة للأهلية.
 
اقتصادياً وفي ظروف طبيعية، تؤدي زيادة الأجور إلى رفع مستوى التضخم والأكلاف مما يرفع أسعار السلع ويدفع بالرواتب إلى الارتفاع مجدداً بما يشبه دوامة أو حلقة مفرغة يتلقى عليها اسم : Price Wage Spiral. كيف إذاً حين تكون الظروف "غير مسبوقة"؟ الكلام عن زيادة الحد الأدنى للأجور في هذا التوقيت الدقيق جنوح خطير وتهور لا بُدَّ أن يُسَرّع وتيرة الانهيار بدلاً من لجمه استعداداً للنهوض مجدَّداً".
 
مجلس الوزراء
ينعقد مجلس الوزراء الاثنين المقبل، ومن ضمن البند الواحد بحسب المعلومات، رفع الحدّ الأدنى إلى 4 ملايين و500 ألف ليرة، مع زيادة بدل النقل إلى 125 ألف ليرة عن كل يوم حضور إلى العمل، بعد أن سبق وأقرّته لجنة المؤشّر في 12 كانون الثاني وتمّ تأخير البتّ به بسبب إضراب موظفي القطاع العام. وهناك اتّجاه لتقديم حوافز ومضاعفة بدل النقل للقطاع العام على أن يكون الحضور إلى العمل 4 أيام في الأسبوع، بحسب مصادر "النهار".
 
هذه القرارات اتُّخذت كلّها بناءً على سعر صرف 37 ألف ليرة تقريباً، في حين تخطى "دولارُنا" اليوم الـ110 آلاف ليرة.
 
وفي عملية حسابيّة بسيطة، وإذا احتسبنا رفع الحد الأدنى للأجور بناءً على سعر 110.000 ليرة، يتبيّن أنه يجب أن يرتفع حالياً إلى حوالى 13 مليون ليرة (110.000x 4.500.000 / 37.000 = 13.378.000). والحال نفسه بالنسبة لتحديد بدل النقل، حيث كانت صفيحة البنزين قبل تاريخ 12 كانون الثاني بـ780.000، فيما تخطّت اليوم المليوني ليرة.
 
مشكلة جديدة في "الضمان"
وفيما بات لزاماً على الشركات والمؤسسات التصريح لـ"الضمان" عن الرواتب الجديدة اذا تم إقرار التعديل، أقله 4,500,000، تبرز مشكلة جديدة وهي اعتماد "سعر مُتحرّك على الحد الأدنى للأجور" نظراً لوجود مادة قانونية في صندوق الضمان الاجتماعي تُفيد بأنه لا يمكن أن يتراجع الحد الأدنى للأجور في حال ارتفاعه، ما يعني أنه لا يمكن اعتماد سلّم متحرك وفقاً لسعر السوق الموازية، أي لا مشكلة بارتفاع الدولار، بل في تراجعه.
 
مدير عام "الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي" محمد كركي لفت إلى أن الموضوع أبعد من "سلّم متحرّك" في ظل "دَولرة" كل شيء إلا الرواتب، فيما تقديمات الضمان ضُربت اليوم بـ110 آلاف ليرة.
 
وأضاف لـ"النهار": "أن المشكلة الحقيقية تكمن في إيجاد حلّ "ذكي" يقضي بتقاضي الاشتراكات في الضمان على الدولار أو ما يوازيه بالّليرة، بدل لجوء أصحاب الشركات إلى شراء تأمين من شركات خاصّة للموظفين والدفع بالدولار لهم".
 
ولفت إلى أن هناك طرحاً تقدّم به منذ سنتين وقد يكون الحلّ الوحيد، يكمن في وضع مبلغ مقطوع للضمان خارج أساس الراتب، على أن يتمّ التقاضي من القطاع الخاص مبلغاً شهرياً بحدود 50 دولاراً للضمان "كي يعطيهم بدوره أكثر ممّا يعطيه التأمين الخاص، خصوصاً لناحية تقديمات الأدوية".
 
وبالنسبة لتسويات نهاية الخدمة، تابع كركي، ان "الصندوق قدّم مشروع نظام لاستبدال تعويض نهاية الخدمة بمعاشٍ تقاعدي لمدى الحياة، "فليتفضّل أصحاب العمل والعمّال لبتّ هذا الموضوع، فلا حلّ إلا بدفع مبلغ مقطوع أو لا ضمان صحّياً".
 
وعلّق على ما يقال عن أن الضمان رافض للسلّم المتحرك، وأكد أنه رغم وجود مادة قانونية تمنع "تراجع الحدّ الأدنى للأجور" في حال تراجع سعر الصرف"، إلّا "أن القوانين يضعها الإنسان لتسيير شؤونه، ومستعدون للسّير بهذا السّلم حالياً، وفي حال تراجع سعر الصرف، مستعدّون أيضاً للذهاب إلى رئيس مجلس النواب لتعديل هذه المادّة كي لا نضرّ بالاقتصاد الوطني، ولكن للأسف لا نرى إلا صعوداً مستمراً للدولار".
وطلب من المسؤولين إيجاد حلّ لتثبيت سعر صرف الدولار ليتمّ التصريح عن الأجور الحقيقية في البلد.
 
الأسمر
من جهته، اعتبر رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، أن السّير بالسلم المتحرك يأخذ الكثير من الوقت، في حين يتمّ التحضير لعملية إعادة تقييم لتعويضات "صندوق الضمان الاجتماعي"، لإيجاد الحلّ المناسب لهذه "الخلخلة" الحاصلة بين دولرة القطاعات وإبقاء الرواتب على الّليرة.
 
وإذ أشار إلى أن إقرار الزيادات للقطاع الخاص أتت متأخرة جداً، في وقت تستمرّ الليرة بالانهيار، أضاف لـ"النهار"، أنّه تم الاتفاق مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لرعاية اجتماع للجنة المؤشر في السراي، لإقرار زيادات فوريّة أخرى تهدف لزيادة إنتاجية العمّال.
 
أبو دياب
وفي السياق، طلب الخبير الاقتصادي أنيس أبو دياب عبر "النهار" من لجنة المؤشر اتخاذ قرار سريع لاعتماده، ومنع استغلال العامل من قبل أصحاب المؤسسات التي تستفيد من انخفاض أجورهم لصالحها، مؤكداً أن "الضمان لن يصبح فاعلاً في ظل وجود سياسات "ترقيعية" وعدم الإقدام على اتخاذ خطوات فعليّة نحو الإصلاح".
 
يشوعي والحلول الترقيعيّة
"عملياً، كل هذه الحلول "ترقيعيّة" في ظل غياب الحلول الجذرية"، هذا ما أكّده الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي، معتبراً أنّ كل تصحيح بالليرة لا تقابله زيادة بالعملة الصعبة لا جدوى منه، بل يزيد الكتلة النقدية بالليرة ويعمّق الهوّة مع الدولار.
 
وشرح عبر "النهار"، أن الأجير يستفيد من الزيادات التي تُقرّ لمدة 48 ساعة فقط، ومن ثمّ يزول المفعول بفعل بروز تضخّم جديد، كون المأزق هو الدولار وليس الليرة. وطلب من المعنيين وقف اتّخاذ مثل هذه الإجراءات والتصحيحات في الرواتب، والذهاب إلى حلول استثمارية وليس إنفاقية، تهدف فقط لإرضاء المواطن موقتاً والضحك عليه. وأعلن أن استعادة الكتلة النقدية تحتاج إلى حاكم جديد لمصرف لبنان المركزي يوحي بالثقة، مع إعادة هيكلة للمصارف، وإلى قضاء سيّد نفسه مع فريق سياسي جديد قادر على اتخاذ خطوات فعليّة.
 
هذا، ويشدد البروفسور خاطر بدوره، على أن "مقاربة الأزمات المستفحلة بخِفَّة يشبه لُعبة الموت! إن ما نشهده ليس إلا معالجات سيئة بالشكل والمضمون ينفّذُها من غاب عنهم العِلم أو استُغيب ومن امتهنوا شراء الوقت والهروب إلى الأمام ومن يعانون "عَدَم الجِدّية" مرضاً مزمناً.
إلى أن يقضي الله أمراً، قد يكون من الأفضل ترك القديم على قدمه والاستمرار بالمساعدات فالمفاضلة اليوم هي بين "الكحل" و"العمى"!
 

اقرأ في النهار Premium