النهار

‏النظام الصحي وأزمات لبنان: رب ضارّة نافعة
المصدر: "النهار"
‏النظام الصحي وأزمات لبنان: رب ضارّة نافعة
القطاع الصحي يعاني في لبنان (تعبيرية- نبيل إسماعيل).
A+   A-
الدكتور شادي صالح
*بروفيسور في تمويل وتنظيم القطاع الصحي
*مدير مؤسّس لمعهد الصحة العالمية - الجامعة الأميركية في بيروت

بغض النظر عن أزمات لبنان الاقتصادية والمالية وهي كثيرة، وبالرغم من تأثيرها على القطاع الصحيّ وهو كبير، لم يكن النظام الصحيّ في لبنان قادراً على أن يستمرّ طويلاً كما كان منذ الحرب الأهليّة وبعدها... إنّه نظام صحيّ تنهشه السياسة والزبائنيّة وعدم الكفاءة المالية، وقد نكون أمام فرصة - ولو تخلّلها مخاض عسير ومؤلم لكثير من المواطنين والمرضى - لإصلاح نظامنا الصحيّ.
 
تميّز النظام الصحيّ في لبنان في المنطقة منذ عقود بمهارة وتميّز الأطباء والعاملين الصحيين، وباعتماد المؤسسات الصحية على ما هو جديد ومؤثّر في العلاجات والمقاربات الصحية. هذا التميّز جعل لبنان قبلة كثير من العرب واللبنانيين السّاعين إلى خدمة مميّزة وطب فعّال وحديث، حتى ذاع صيت الأطباء والإداريين والكادرات الصحيّة من اللبنانيين في الوطن العربي وجميع أنحاء العالم.
 
لكن هذا التميّز كان مبنيّاً مؤسّساتيّاً، وكنظام صحيّ، على إطار هشّ مبنيّ على توزيع "هياكل" صحيّة من وزارة وصندوق وطنيّ للضمان الاجتماعيّ وتعاونيّات موظفي الدولة وأسلاك عسكرية إلخ، مع ما يتبع ذلك من ضياع مقاربة موحّدة للنظام الصحي في لبنان، بالإضافة إلى تعدّد المرجعيّات المؤسّساتيّة والماليّة للنظام الصحيّ.
 
بناءً على ما تقدّم، عانى هذا النظام وما يزال من مشكلات عديدة، نلخّص بعضها هنا:
 
1 - استمرار سيطرة القطاع الخاص على الواقع الاستشفائي، بالرغم من المحاولات الجديّة في تسعينيّات القرن الماضي لبناء وتقوية المستشفيات الحكومية. لكن هذه المستشفيات أصبحت أسيرة للزبائنيّة السياسيّة، وأماكن لتوظيف المحسوبين، مع ما استتبعه ذلك من تبعيّة و"مراكز قوى" في داخل هذه المؤسّسات. والجدير بالذكر أن الكثير من المستشفيات الخاصة عبارة عن "دكاكين صحيّة" لا ترقى إلى مستوى خدماتيّ صحيّ يليق بها اسم مستشفى.
 
2 - الارتفاع غير المبرّر وغير المنطقي للفاتورة الدوائية، إذ بلغت تكلفة الدواء في ٢٠۱٩/ ٢٠٢٠ نحو 1.2 مليار دولار مقارنة مع تكلفة أقلّ في بلدان مجاورة كالأردن حيث عدد السكان ضعف مثيله في لبنان.
 
3 - تعدّد الجهات الضامنة الذي أدّى إلى ضعف الكفاءة المالية، حيث تتوزّع القوة الشرائيّة على هيئات كثيره بدل واحدة، وتتكرّر مهمّات ومسؤوليّات مطابقة في كلّ هيئة (الكادر البشري، المهمّات، إلخ).
4 - عدم استخدام التخطيط المسبق في إنتاج المدخلات في النظام الصحي من ‏كادر بشري (ينتج عدد أطباء وعاملين صحيين أكثر من حاجة البلد) ومؤسّسات استشفائيّة وأسرّة. وهذا مهمّ جداً بسبب المبدأ العام في الصحة "Supply – Induced Demand" أي إن كثرة الأطباء والمستشفيات يحتّم بشكل تلقائي استخداماً مفرطاً وغير مبرّر لهذه الخدمات، وبالتالي تكلفة مرتفعة. والجدير بذكره أن متوسّط إنفاق الفرد في لبنان على الصحة في ٢٠۱٩/ ٢٠٢٠ بلغ ٦۸٦ دولاراً أميركيّاً مقارنة بمعدّل ٣٩٣ دولاراً أميركياً في العالم العربي.
 
5 - عدم تطوير ثقافة الصحة العامة والرعاية الصحية الأولية؛ وهذا يشمل المقاربة الوقائيّة للصحة، واستخدام رعاية صحيّة فعّالة وقليلة التكلفة. وبالرغم من أن لبنان خطا خطوات جيّدة في السنوات الأخيرة في تفضيل الرعاية الصحية الأولية فإن التركيز بقي على الاستشفاء واستخدام التدخلات الصحيّة المُكلفة.
 
ما سبق هو نبذة عن المخاطر الأساسية والهيكلية التي عانى منها النظام الصحي في لبنان لعقود خلت. أمّا وقد أصبحنا في ما نحن عليه من أزمة ‏اقتصادية ومالية خانقة، فهذا يحتّم إعادة النظر في مقاربات مختلفة لإعادة إنتاج نظام صحيّ ذي كفاءة وفعّال وعادل.
 
يقدّم هذا المقال أفكاراً وآليّات لإنتاج نظام كهذا مع وجوب التركيز على أن ما سوف يقدّم ليس علاجاً سحرياً، وأن الفترة الفاصلة لإنتاج هذا النظام سوف تكون موجعة لكثير من اللبنانيين، الذين يواجهون مخاطر صحيّة وماليّة بمجرّد حصول المرض.
 
المقاربة الأولى (طويلة الأمد): إعادة هيكلة النظام الصحيّ في لبنان لتوحيد الجهات الضامنة وتحديد المسؤوليات. وفي هذا الإطار أقترح الآتي:
 
1- تتخلّى وزارة الصحّة عن دور أحد أهمّ مموّلي الصحة في لبنان (وهذا الدور بدأ بعد الحرب، وأصبح عُرفاً وأداة انتفاع سياسيّة "وزارة خدماتية") وتتحوّل إلى منظّم ومراقب للقطاع الصحيّ بأكمله.
2- إعادة هيكلة الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعي ليكون الأداة الرئيسية للتمويل الصحيّ. وهذا التطوير يجب أن يكون شاملاً في هيكليّة مجلس الإدارة إلى الادارة العامة والمالية والطبية واستحداث أنظمة إلكترونية شاملة وفعّالة.
 
المقاربة الثانية (متوسّطة أو طويلة الأمد): استحداث مناطق صحيّة Health Care Coordination Networks (HCCONS) موزّعة جغرافياً في لبنان بناءً على التوزّع السكّانيّ والحاجات الصحيّة. وتشمل هذه المناطق الصحيّة ‏مراكز رعاية صحيّة أوليّة ومستشفيات ودور تأهيل ومختبرات إلخ، فيُصبح قاطن هذه المناطق ذا قدرة على الولوج إلى الخدمات من دون الذهاب إلى أماكن بعيدة، خاصة أن هذه المناطق سوف تشمل نظام إحالة ما بين المؤسّسات الصحيّة مع نظام تحويل يكافئ مخرجات صحيّة معيّنة (نسب الأمراض التي تقلّ ‏مع الوقاية، تكرار "Duplication" للخدمات مع ما ينجم منها من عدم كفاءة وهدر). ويجب أن يكون للمستشفيات الحكوميّة الدور المركزيّ في هذه المناطق الصحية.
 
المقاربة الثالثة (قصيرة ومتوسّطة الأمد): الوصول إلى الخدمات الدوائية(Access to Medicine) ، ونقطة البداية هو استحداث مؤسسة الدواء الوطنية. الجهود بدأت في مجلس النواب مع تفعيل المختبر المركزي. لكن حجر الأساس في هذه المقاربة هو في العمل على ‏ثقافة استبدال الأدويةالـBrand بالأدوية الـ Generic بشكل فعّال، والعمل مع الأطباء والصيادلة لتبني وتنفيذ ذلك. وهذا يشمل إعادة النظر في البروتوكولات العلاجية لتكون فعّالة وآمنة، ولكن تأخذ في الاعتبار الواقع المالي والاقتصادي للمريض والنظام الصحي. بالإضافة إلى ذلك، يجب تشجيع الإنتاج المحلي للدواء، وأن يكون تصنيعه حقيقياً لا ‏إعادة توضيب لأدوية من بلدان أخرى بعبوات كتب عليها "صنع في لبنان" للحصول على امتيازات ضرائبية. الإنتاج المحلي للدواء ممكن أن يشكل دعامة حقيقية للاقتصاد الوطني.
 
المقاربة الرابعة (قصيرة الأمد): استحداث نظام طارىء للدعم الصحي (Emergency Health Protection Program (EHPROP)) يعتمد بشكل أساسي على توفير شبكة حماية صحيّة لمحدودي الدخل، وهذا وجب العمل عليه الآن، ويكون مرحليّاً ‏تابع ‏لرئاسة الوزراء (مرجعيّة النظام الصحيّ حالياً موزّعة على وزارات عديدة). ويكون هذا البرنامج مموّلاً من صناديق عديدة محليّة ودوليّة، ويشمل ذوي الدخل المحدود، ويكون جزءاً من هذا البرنامج تبنّي دول للمؤسّسات الصحيّة والاستشفائيّة (مثل ما حصل حالياً مع جمهورية مصر العربية ودولة الإمارات المتحدة وتركيا) من حيث التكاليف الجارية الرأسمالية(Capital & Operational) ، بالإضافة إلى دور مؤسّسات دولية ومنظمات المجتمع المدنيّ في تحمّل التكاليف ضمن آليّة موحّدة وشفافة.
 
إن ما سبق يُعدّ ملخّصاً لما يجب أن يعمل عليه الآن قبل الغد لإعادة إنتاج نظام صحيّ ذي كفاءة وعادل وقادر على الاستمرار في ظلّ إمكانيّات لبنان الغنيّ بطاقاته ولكن الفقير حتى الآن بمقاربته المؤسّساتيّة.
 
ويبقى القول الأخير بأنّ الصحة هي حق الناس، وويل لأمة أو بلد افتقر فيه إنسان لمرض ألمّ به.
 
 
 

اقرأ في النهار Premium