محمد فحيلي، خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد
الكلام عن بيع وشراء الدولار وعن الجدوى من منصّة صيرفة رداً على بيان رياض سلامة ليوم السبت في 22 تشرين الأول 2022 هو استسخاف بما يحصل رغم الأهمية القصوى التي يحملها بأهدافه!
بعدما أصبحت تطبيقات "الواتس أب" تعمل في ظلام الليل ووضح النهار؛ في أيام العمل وأيام العطل؛ لا عجب عندما يطل علينا حاكم مصرف لبنان أيام السبت والأحد لإعطاء المواطن اللبناني نكهة عن حركاته في الأيام المقبلة للحدّ من الشائعات والهلوسة. وهذا بات المتوقع من بياناته التي هي موجهة للمواطن اللبناني تاركاً بذلك التعاميم للمصرفيين!
بعدما أقفلت أبواب الأسواق المالية بوجه الدولة اللبنانية بعد التعثر غير المنظم في آذار من سنة 2020 الذي جاء نتيجة جهل أو تجاهل الطبقة السياسية عن تداعيات خطوة من هذا النوع على الاقتصاد المحلي، وبعد الانكماش الاقتصادي الحادّ خلال السنوات الثلاث الماضية، والفشل الكامل للدولة اللبنانية وانعدام قدرتها على تحصيل إيراداتها من الضرائب والرسوم، لم يعد أمام الدولة اللبنانية سوى "طباعة العملة" لتمويل تأمين الخدمات الأساسية للمواطن اللبناني وتغطية مصاريفها التشغيلية.
لتفادي الضغوط التضخمية التي قد تنتج عن طباعة الأوراق النقدية، يلجأ المصرف المركزي، في الظروف الطبيعية، إلى إمتصاص الفائض من السيولة عبر إصدار سندات خزينة لاكتتاب المصارف فيها وبهذا تُجَفّف السيولة وتكون الضغوط التضخمية نوعاً ما تحت السيطرة.
للأسف هذا الإجراء لم يعد متوفراً للمركزي في أيامنا هذه لأن هناك فائضاً من التوظيفات يعود للمصارف لدى مصرف لبنان، وهذه التوظيفات هي اليوم تحت الإقامة الجبرية وتخضع لكل أنواع الضوابط وتوقفت المصارف عن الاكتتاب بسندات الخزينة وتوقفت الدولة عن إصدار هذه الأدوات المالية.
وبات السبيل الوحيد لتقليص حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية هو استبدالها بكتلة نقدية أخرى بعملة بديلة وهي الدولار الأميركي. وهذا "الاستبدال" أصبح الركيزة الأساس للسياسات النقدية بعد فقدان الأمل بإقرار أي إصلاحات من قبل السلطة السياسية الحاكمة وتنفيذها. تجري عملية الاستبدال هذه عبر منصّة صيرفة. لماذا منصّة صيرفة؟ لأن مصرف لبنان فقد القدرة على السيطرة على حركة التبادل في السوق الموازي، والإغراء الوحيد الذي يستطيع تقديمه المركزي لمن يرغب في الانخراط في هذه المنصة هو سعر الصرف المدعوم (الفارق بين سعر الصرف على منصة صيرفة وفي السوق الموازي)؛ وهو سعر صرف مدعوم لأنه دون السعر الناتج عن التبادل الحرّ في السوق.
نعم، تُرفع القبّعة للمصرف المركزي لتمكنه من السيطرة، وإن جزئياً، على سعر الصرف ومنعه من الارتفاع الجنوني! الكل يعترف بأن المسار الطبيعي لسعر صرف الدولار في لبنان هو الصعود، وأي هبوط في سعر الصرف لن يكون إلا ظرفياً، وهو الاستثناء وليس القاعدة، وسوف يعود الدولار إلى الارتفاع.
وأختم بالإشارة إلى أن ما يحصل اليوم في ظل فشل الدولة، وتقلص دور المصارف التجارية في إحداث أي أثر كبير في سياق تنفيذ السياسات النقدية، بات مصرف لبنان هو اللاعب الوحيد على الساحة النقدية وما يفعله فعلياً هو لتفادي الاستمرار في طباعة الأوراق النقدية لتمويل مصاريف القطاع العام التشغيلية.
يلجأ المركزي إلى "إعادة تدوير" (recycling) ما توفر من أوراق نقدية بالنقد الوطني: ينشط في شراء الدولار في جزء من هذه الدورة من خلال إنخراطه في السوق الموازي (السوق السوداء)؛ وليعود في المرحلة الأخرى بتسهيل بيع الدولار عبر منصة صيرفة بسعر مدعوم ويتحمل هو خسارة فرق سعر الصرف. تكلفة زهيدة، بحسابات مصرف لبنان، إذا كانت النتائج هي لجم الارتفاع الجنوني بسعر صرف الدولار، وتأمين التمويل، بالحد الأدنى، للقطاع العام. في سلبيات نجاح مصرف لبنان في هذا المجال هو تقاعس السلطة عن إقرار أي إصلاحات حقيقية يمكن البناء عليها من أجل إنقاذ لبنان. وحركة البيع والشراء هذه والاضطرابات في سعر الصرف التي تحدثها جعلت من كل مواطن لبناني مضارباً وتاجر عملة، كل منهم وفق حجمه. يحاول مصرف لبنان وضع ضوابط على حجم الانخراط في شراء الدولار على منصّة صيرفة حتى يستبعد عامل الاحتكار. ويبقى هذا هو عنوان المرحلة إن لم تتعظ مكوّنات السلطة السياسية الحاكمة وتسارع إلى إقرار الإصلاحات الضرورية وإلى تنفيذها.