النهار

لن يكون الصيف لطيفاً... حذار!
مصرف لبنان.
A+   A-
كتب محمد فحيلي، خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد.
 
هناك الكثير من "المطبات الهوائية" التي ستواجه الرحلة من عهد رياض سلامة إلى ما بعد رياض سلامة، ومن المستحيل أن يكون هناك أيّ وجه من الشبه بين الاثنين. ويأتي هذا الاستحقاق في 31 تموز من سنة 2023 في ظل فراغ رئاسي، وكل المعطيات تبشّر بطول أمده؛ وهذا يُترجم على الساحة النقدية تعذّراً في تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان.
 
هذه الضبابية تُساهم في إنتاج الفائض من التفسيرات والاجتهادات، وتُعطي مساحة واسعة للمضاربين للتحكّم بأسواق القطع وإحداث إضطرابات بسعر الصرف تساعدهم لتحقيق إيرادات استثنائية، وبذلك تُهلك المواطن، مستهلكاً وصاحب مؤسسة.
 
وجرت العادة أن يصدر التعميم الذي يهدف إلى إحداث انعطافة استراتيجية في السياسة النقدية من مصرف لبنان، ويتبعه مباشرة تعميم يشرح آلية التنفيذ والامتثال لأحكام هذا التعميم من لجنة الرقابة على المصارف. وترسل التعاميم لرئيس مجلس إدارة المصرف، ويتولّى بعدها المصرف شرحها لعميل المصرف. اليوم، تذهب التعاميم مباشرة إلى الإعلام والمواطن، وفي بيئة تفشّي الاعتماد على العالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث كلّ ناشط على هذه المنصّات يُصبح محللاً اقتصادياً ومالياً ونقدياً، ويسترسل في تفسير أحكام التعاميم وتداعياتها على جيبة المواطن، وينتهج الترغيب والترهيب وسيلة لتعزيز حظوظه بالحصول على الـ"لايك"، والـ"ريتويت" وغيرها، ممّا يُرضي طموحاته. حتى الاحتياطي الفيدرالي في أميركا اعترف بأنّ هذه المنصّات كان لها قسط وافر من المسؤولية في الإسراع بتدهور وضع مصرف سيليكون فالي (Silicone Valley Bank - SVB).
 
 
الإفراط في إصدار التعاميم في مرحلة الاستقرار النقدي النسبي هذا سوف يُحدث صدمة سلبية في سوق القطع وعودة إلى الاضطرابات. بغض النظر عن وضوح الصياغة والرسالة في تعاميم مصرف لبنان الأمس (تعديل في أحكام التعميم 158 وإبقاء التعميم 151 على ما هو عليه)، كان هناك فائض من التفسير والاجتهاد، وهذا يعطي مساحة إضافية للمحتكر والمضارب في السوق! المحافظة على الاستقرار النقدي أهم بكثير من "إثبات الوجود".
 
وهناك ثغرة في التعميم 158 لن يأتي قرار مصرف لبنان على معالجتها وهي تأمين السيولة من 3 في المئة من السيولة الخارجية، التي يجب أن تتوفر لكلّ مصرف لدى المصرف المراسل، وجاءت في إحدى المواد في التعميم الأساسي رقم 154. باعتراف جمعية مصارف لبنان تعذّر الامتثال كليّاً لأحكام هذه المادّة، وكانت الثغرة نحو مليار وثلاثمئة مليون دولار؛ فمن أين تتوفر السيولة لدى المصارف الفاقدة لهذه السيولة بالدولار؟ إضافة إلى ذلك، تم تجميد العلاقة وأرصدة حسابات بعض المصارف التجارية اللبنانية لدى مصارفها المراسلة بعد التعثر غير المنظم في 7 آذار 2020 بسبب عدم قدرتها على التجاوب مع طلبات المصارف المراسلة والاستيفاء لشروطها، وتحول أرصدتها إلى سلبية، بسبب تفاقم المخاطر الائتمانية. وهذا يعني بأن هذه المصارف لا تملك السيولة المطلوبة للتعميم 158 والسؤال "من أين توفر هذه المصارف السيولة لصرف مستحقّات التعميم لمودعيها؟". الجواب المنطقي يكون بالذهاب إلى السوق الموازية وشراء حاجتها من الدولارات، ولا خوف من أن يحدث ذلك طلباً استثنائياً على الدولار، لأن هذه المجموعة من المصارف التجارية التي جُمِدت علاقتها مع المصارف المراسلة تشتري حاجتها من الدولار من السوق الموازية من تاريخ إصدار هذا التعميم في حزيران من سنة 2021، واستطاعت تأمين قسط وافر من الدولارات عبر منصّة صيرفة بغفلة متعمدة من رقابة المصرف المركزي.
 
لذلك، أدعو المجلس المركزي لمصرف لبنان، وأخص بالذكر نواب الحاكم الأربعة، إلى عقد مؤتمر صحفي لرسم خريطة طريق لمرحلة ما بعد رياض سلامة للتعاطي بشفافية مع المواطن اللبناني الذي عاش وتعايش مرغماً مع سنوات الآلام الماضية. عودة الثقة إلى القطاع المالي، من الهيئة المصرفية العليا إلى المصارف التجارية، هي من أولى مسؤولياتكم وواجباتكم، بعد أن فُقِدت بسبب ممارسات الماضي من قبل القيّمين على السلطة النقدية، والمصرفيين وتدخّل مكونات الطبقة السياسية بعمل المركزي والإملاءات في صياغة السياسات النقدية.
 
اللجوء أو التهديد بالاستقالة قرار مؤسف، والبيان الصادر في 6 تموز عن نواب الحاكم يدل على خوف وضعف أمام هول المسؤولية في المرحلة المقبلة. إذا كانوا حقاً شركاء في قرارات المجلس المركزي خلال سنوات الأزمة، فالمرحلة المقبلة لن تكون مختلفة عن سابقاتها إلا بالإيجابيات، وبهذا يكون "بيان التهديد" لزوم ما لا يلزم. قد تكون مناورة سياسية للتمهيد لتمديد إداري لرياض سلامة حاكماً على رأس السلطة النقدية. كلام الرئيس بري في اليوم ذاته وإشارته بأن الضرورات تبيح المحظورات يبشّر بالتمديد الإداري حتى إنتخاب رئيس للجمهورية.
 
‏‎انا على ثقة بأنه لن يكون هناك استقالة جماعية لنواب الحاكم، بالرغم من الإشارة إليها من قبل النائب الثالث لحاكم مصرف لبنان الدكتور سليم شاهين، ولأسباب واضحة:
1. تُقَدم الاستقالة الى أي جهة؟
2. القوى السياسية التي أوصلتهم إلى هذه المراكز غير قادرة وغير مستعدة على تحمل تداعيات الاستقالة الجماعية لأنه قد تكون هذه الاستقالة هي الارتطام الكبير!
 
 
بما أن مصرف لبنان يدير الأزمة بكل جوانبها بعد تنحي مكونات السلطة السياسية عن هذه المسؤولية منذ اليوم الأول لاندلاعها، الكل ينتظر حركة من المصرف المركزي ليبني عليها نشاطاته الاقتصادية:
- المصارف تنتظر السيولة من مصرف لبنان لتأمين سحوبات المودعين لتمويل فاتورة الاستهلاك وتسديد المصاريف التشغيلية للمؤسسات،
- موظفو القطاع العام ينتظرون رواتبهم على سعر منصة صيرفة،
- المستوردون ينتظرون الاعتمادات،
- الدولة مازالت عاجزة عن تمويل مصاريفها التشغيلية،
وهناك الكثير. الفراغ في السلطة النقدية قد يكون مُدَمراً!
 
أنا على ثقة إذا اتخذت السلطة السياسية قرار التمديد الإداري لرياض سلامة حاكماً، فلن يعارض سلامة هذا القرار. لذلك اليوم نحن بانتظار ما قد تنتجه السلطة السياسية لحلّ هذه المعضلة. ولا شكّ في أن إبقاء رياض سلامة في موقع الحاكم هو بمثابة تمديد للحصانة الذي يتمتّع بها هذا الموقع.
 
أما اقتصادياً، فالممر الإلزامي للإنقاذ والانتعاش الاقتصادي هو قطاع مصرفيّ يتحلّى بالثقة، ثقة المستثمر والمودع، والقدرة، في توفر السيولة ورأس المال، على خدمة الاقتصاد في هذه المرحلة. وهناك تلازم بين المسارين، لأن توفر رأس المال مع انعدام الثقة لا يُجدي نفعاً، والعكس صحيح. متطلّبات هذه المرحلة المقبلة تختلف عن متطلّبات مرحلة الرّخاء. وهذا هو عنوان مرحلة ما بعد رياض سلامة. إذا كان الكتاب يُقرأ من عنوانه، فمن الواضح أنّ الفراغ الرئاسيّ سوف يكون طويلاً، وبذلك تتكاثر المسؤوليّة، وتتراكم على عاتقكم، ويطول أمدها، وبذلك تصعب الحلول! كلّ الثقة بالفريق الحاكم في مصرف لبنان للاستمرار بإدارة فاعلة للأزمة بانتظار إقرار الإصلاحات الضرورية وتنفيذها.
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium