رولى راشد
نجح انتشار الأوبئة من ناحية، والحروب المستمرة والانهيارات الاقتصادية والأزمات المالية من نواحٍ أخرى، في الكشف عن هشاشة الأنظمة الصحية التي هبطت إلى أدنى مستوياتها مع أول هزّة.
في دستور منظمة الصحة العالمية "الوصول إلى العلاج دون عناء هو حق من حقوق كل إنسان"، إلا أن الواقع الذي وصلنا إليه يرصد فجوة كبيرة، وظلماً ضاغطاً على غالبية سكان العالم.
في السنوات الأخيرة، كان التحرّك العالمي نحو التغطية الصحية لافتاً؛ ففي عام 2015، تعهدت غالبية البلدان بتحقيق التغطية الصحية الشاملة في إطار خطة التنمية المستدامة لعام 2030. وأقرّ في عام 2018 إعلان "صلالة" بشأن التغطية الصحية الشاملة، وإعلان "أستانة" بشأن الرعاية الصحية الأولية.
عُقد أول اجتماع رفيع المستوى للأمم المتحدة بشأن التغطية الصحية الشاملة في أيلول 2019. واعتمدت الدول الأعضاء بالإجماع إعلاناً سياسياً أكدت فيه التزامها بالتغطية الصحية الشاملة. كما أطلق 12 من الموقّعين على هذه الاتفاقية، بما في ذلك مجموعة البنك الدولي. وفي كانون الثاني 2020، عُقد المنتدى الثاني للتغطية الصحية الشاملة في بانكوك بهدف تعزيز الزخم السياسي بشأن هذه التغطية على المستوى الدولي.
وأبعد من ذلك، سيركز اجتماع الأمم المتحدة الثاني الرفيع المستوى المقرر عقده في نيويورك خلال أيلول 2023 على موضوع التغطية الصحية الشاملة.
في العالم، يعاني اليوم زهاء 90 مليون شخص من الفقر بسبب النفقات الصحية كل عام.
أما في لبنان، فقد يكون هذا الموضوع هامشياً بنظر البعض في الوقت الراهن، مع الفوضى المنتشرة، خصوصاً وأن السلطة الحالية كما سابقاتها لم تعطِ الشأن الصحي الأولوية، وكل ما حملته من شعارات وعناوين لا يخرج عن كونه مواقف شعبوية.
بعد انهيار العملة والانكماش الاقتصادي، عرف القطاع الصحي تدّهوراً خطيراً، حيث سجّلت أسعار الصحة بحسب أرقام الإحصاء المركزي اللبناني للعام 2022، ارتفاعاً منذ بداية عام 2019 ولغاية تموز 2022 بنسبة 1110%. وكان الانحدار سريعاً حيث وهناك أكثر من 51 بالمئة من اللبنانيين المقيمين، لا يتمّتعون بتغطية صحية، في حين أن أرقام اليونيسف في حزيران 2022، تشير إلى تخفيض 60 %من العائلات الإنفاق على العلاج الصحي، مقارنة بنسبة 42 % في نيسان2021.
ويلحظ البنك الدولي أن تضّخم الأسعار ليس فقط مصدره انهيار قيمة العملة مقابل الدولار، بل إن الأمر يعود أيضاً إلى ارتفاع كلفة النقل التي تشمل نقل المستلزمات الطبية والأدوية... والأخطر يكمن في النقص المستجد في عدد العاملين في القطاع، إذ وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية الواردة في تقرير "مراجعة المالية العامة" الصادر عن البنك الدولي،"فإن النقص في عدد العاملين في القطاع تتراوح نسبته ما بين 30% و40% بسبب الهجرة المستمرة لهؤلاء".
وفي غضون ذلك، يصعب على أي مُقيم في لبنان الحصول على الخدمة الطبية اللازمة، سواء كانت استشارة الطبيب، أو شراء الأدوية، أو الحصول على خدمات استشفائية. تجفيف الخزينة حجب كل الخدمات المموّلة من أحد الصناديق الصحية الضامنة. في الماضي، كان ما نسبته 55.6% من المقيمين في لبنان يتمتّعون بالتغطية الصحيّة، ومن بينهم 45.5% مشمولون بتغطية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وزهاء20 % تتولّى نفقاتهم الصحية صناديق المؤسّسات العسكرية، و11.5% على حساب مؤسسات الأمم المتحدة، فيما 5.9% على عاتق تعاونية موظفي الدولة، و15.3% تغطّيهم شركات التأمين الخاصّة. أما النسبة الباقية، فتهتم وزارة الصحة بتكاليف علاجها.
"خسر نحو أكثر من 1.92 مليون فرد مقيم في لبنان، النسبة الكبرى من التغطية الصحية التي كانوا يحصلون عليها من مصادر الخزينة، والمشكلة تتفاقم بغياب أي معالجة للمسألة. فالحدّ الأدنى المطلوب لتقديم الخدمات الصحية الأساسية، يبلغ 200 مليون دولار، إنما مشروع الموازنة لم يصل إلى نصف هذا المبلغ بعد"، وفق تقديرات البنك الدولي.
وفق رئيس لجنة الصحة النيابية النائب بلال عبدالله "البطاقة الصحية وقبلها ضمان الشيخوخة شعارات ‘حلوة وبراقة‘ والجميع يتحدّث عنها، في حين أن لا أحد يعرف كلفتها".
ولأجل ذلك، سُحب المشروع من اللجان.
لماذا لم يُكتب لمشروع التغطية الصحية الشاملة متابعة مساره التشريعي؟ وهل الظرف اليوم مؤاتٍ للتعجيل به؟
الجردلي
يقول مدير مركز ترشيد السياسات في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور فادي الجردلي: "يعتري مشروع التغطية الصحية الشاملة سلسلة كبيرة من الفجوات والملاحظات أشارت إليها اللجان النيابية، لأن المشروع لن يعطي الغرض منه، سيما وأنه من المفترض أن يمنح لكل فرد الحق بالتمتّع بأعلى مستوى من الصحة".
وفنّد لـ"النهار" الثغرات وفق التالي:
"أولاً: يستفيد من المشروع المشمولون بتغطية وزارة الصحة العامة دون سواهم من المضمونين لدى هيئات ضامنة توفر رزمة خدمات بموجب عقود.
ثانياً: يأتي المشروع ضمن برنامج لوزارة الصحة العامة، فيما يكون في باقي الدول وحدة مستقلة داخل الحكومة، كما هو الحال في مصر وتركيا وغيرهما...
ثالثاً: عدم تحديد الخدمات التي ستؤمن ويمكن تغطيتها.
رابعاً: لقد أغفلت مصادر التمويل، وتوزيعها وكيفية استدامة الإيرادات بغياب الدراسة الإكتوارية المناسبة، إسوة بما اعتمدته الدول التي حققت نجاحاً في المشروع.
خامساً: التغاضي عن قانون الشراء العام في تأمين الخدمات وفي خطة التطبيق.
سادساً: غياب مؤشّر الأداء والتخفيف من عملية تسديد الفرد الفارق من الفاتورة من جيبه out of pocket".
منذ عهد وزير الصحة إميل بيطار في حكومة صائب سلام عام 1971 الذي أصدر قراراً بشأن بدء العمل بالبطاقة الصحية اعتباراً من أيار 1972 بعد إعطاء حامليها، من ذوي الدخل المحدود، الحقّ بالطبابة والاستشفاء في جميع المؤسّسات الصحّية المتعاقدة مع الدولة، وعلى مرّ السنوات، توالى الحديث عن التغطية الصحية الشاملة، ليصل إلى جدول أعمال مجلس الوزراء عام 2011 بعدما تقدّم وزير العمل في حكومة نجيب ميقاتي، شربل نحاس، بمشروع إرساء التغطية الصحية الشاملة لجميع المقيمين في لبنان، تبعته في شباط 2019،
‘استراتيجية صحة 2025“ وضعها وزير الصحة العامة غسان حاصباني، وفيها تنظيم للرعاية الصحية الشاملة. جولات من النقاش لازم معها المشروع الحبر على ورق، إلى أن أدخلت بعض التعديلات على اقتراح القانون الذي طرحه رئيس لجنة الصحة النيابية النائب السابق عاطف مجدلاني، وصمد عالقاً لسنوات لأنه لحظ صندوقاً مستقلاً جديداً يوازي الضمان، ما يعني ليس التضارب في الخدمات، وإنما في المصالح السياسية التي اقتسمت الصناديق الضامنة. اليوم يعاني اللبناني من تضخّم فاتورة طبابته، هذا إن تشجّع وقرّرالعلاج، فيما النازح يتمتعّ بأعلى درجات التغطية الصحّية.!
كيف هو المشهد اليوم؟
هنا يلفت الجردلي إلى أن "هناك نسبة 90% من الأفراد ممن يسددون من جيبهم سواء كانوا مضمونين لدى الضمان الاجتماعي أو وزارة الصحة أوغيرهما من الجهات الضامنة، علماً أن شركات التأمين تُلزم التسديد بالكاش النقدي Fresh dollar .
وقد لحظ المشروع تولّي هيئة عامة التنظيم والتقييم بعد موافقة وزارتي الصحة والمال. ويبقى السؤال من سيعيّن أعضاء هذه الهيئة؟!".
وعن إمكانية توقيت طرح المشروع في هذه المرحلة الضبابية، يعتبر الجردلي "أن الحاجة ملحّة إليه اليوم قبل أي وقت. معظم الدول التي باشرت باعتماده، كانت ترزح تحت وطأة مشاكل اقتصادية كبيرة. نحن نعلم أن الصحة هي أساس كل اقتصاد، ولكن يجب:
1- الوصول إلى التزام حكومي جدي. وهذا للأسف غير متوافر اليوم مع المنظومة الموجودة التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه.
2- قوننة المشروع فلا يعود مجرد برنامج لحكومات عابرة.
3- إلحاق مشروع التغطية الصحية الشاملة برئاسة مجلس الوزراء مع إشراك كل القطاعات.
4- تحديد رزمة الخدمات المؤمّنة من علاج وقائي، رعاية صحية أولية، دور المستشفيات الحكومية.
5- تحديد مصادر التمويل. ولتأمين الجودة في الخدمات يجب توحيد الأطر. ففي تركيا، نسبة 85% من الإيرادات المحصّلة عن الدخان توظّف في موازنة الصحة. وكذلك الأمر في مصر والسعودية وغيرهما.
المطلوب إرادة سياسية وحوكمة رشيدة لإدارة الصناديق. لا نجاح لأي مشروع قانون بدون دراسة إكتوارية وجدوى اقتصادية، بغياب داتا، ومعالجة للازدواجية في الخدمات وإصلاح البنية التحتية.
واليوم هناك مثل على فشل مشاريع لم تأخذ بالاعتبار هذه الأمور وهو الضمان الاختياري في لبنان. من هنا، لا بد من حجب الثقة عن أي حكومة لا تتبنّى جديّاً في برنامجها مشروع التغطية الصحية الشاملة كبند رئيسي ومُلحّ".
بانتظار يقظة المسؤول، واستنفارالجهود للبحث جدياً في مشروع التغطية الصحية الشاملة، نأمل عدم الاصطدام بالحلول الترقيعية التي هي أكثر كلفة على خزينة الدولة وجيب المواطن، خصوصاً وأن "الطبابة حكر على الأغنياء"، غدت شعاراً معيباً للأسف في لبنان، مستشفى الشرق.