النهار

أبعد من تعديل قانون النقد... ملاقاة تقرير التدقيق الجنائي بورشة بدءاً بالمحاسبة والمساءلة
رولى راشد
المصدر: "النهار"
أبعد من تعديل قانون النقد... ملاقاة تقرير التدقيق الجنائي بورشة بدءاً بالمحاسبة والمساءلة
لقطة من الشارع اللبناني. (أرشيفية- "أ.ف.ب").
A+   A-

لم يكد يُكشف عن مضمون تقرير التدقيق الجنائي للرأي العام بفعل الضغوطات النيابية، وبعد حجبه من قبل وزير المال منذ حزيران الفائت، حتى سارع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى الطلب بإجراء تعديلات على قانون النقد والتسليف الذي وضع عام 1964، بحجة وجود بعض الشوائب في الأصول المحاسبية في مصرف لبنان.

في رأي اجتمع حوله الخبراء والمراقبون أن "التقرير هو أوّلي ولم يشِر إلى مكامن هدر المال العام في الدولة الذي لا يمكن إحصاؤه بسهولة في كل المرافق، ولاسيما في مؤسسة كهرباء لبنان وفي وزارة الطاقة والمياه اللتين تحتاجان إلى التدقيق الملحّ في حساباتهما، إلى جانب الوزارات والدوائر العامة والصناديق والهيئات المستقلة والمجالس والمؤسسات العامة التجارية، فضلاً عن المصارف التجارية التي تصرّفت بأموال المودعين من دون حسيب أو رقيب، بل اكتفى بما تم إنفاقه وهدره من قبل المصرف المركزي وما تم إخفاؤه مع التلاعب بالأرقام".

 

وأبعد من المنشور، يكشف نائب رئيس حكومة تصريف الأعمال سعادة الشامي "أنه لم يُسمح للشركة بالوصول غير المقيّد إلى المعلومات المطلوبة، ولا إجراء المقابلات مع العديد من مسؤولي مصرف لبنان الذين يمتلكون معلومات قد تفيد عملية التدقيق... لذا لا يمكن اعتبار التدقيق منجزاً، ويجب التعاقد مع الشركة لمواصلة التدقيق الجنائي من خلال إتاحة جميع البيانات المطلوبة وتمديد فترة التغطية إلى الفترة المتبقية من 2021-2023. ويعتبر أن على الحكومة مسؤولية اتخاذ سلسلة إجراءات من بينها:

 

- إبلاغ جميع المعلومات الواردة في التقرير إلى القضاء وإضافتها إلى الملفات قيد التحقيق.

- الشروع بتعديل قانون النقد والتسليف وتعزيز دور المجلس المركزي.

- التحقيق في دور وأداء الشركات المولجة تدقيق حسابات مصرف لبنان والموافقة على بياناته المالية والمصادقة على أنها مطابقة للمعايير والنظم العالمية خلال السنوات الماضية، بخاصة إن كان هناك من شكوك في أنها غضّت الطرف عن أسالیب محاسبية في مصرف لبنان مخالفة لتلك المعايير، ووقف أنشطة تلك الشركات لحين انتهاء التحقيق.

- تشكيل لجنة لتقصّي الحقائق، تضم مصرف لبنان ووزارة المال إلى جانب بعض أعضاء البرلمان (شكل اللجنة وتركيبتها يحددان لاحقاً) لتحديد المسؤوليات وإعادة جميع الأموال المهربة إلى البنوك، لما فيه مصلحة اللبنانيين عموماً والمودعين خصوصاً.

ولكن هل إن الثغرة كانت فعلاً في قانون النقد والتسليف الذي كان يحمل رايته سلامة طيلة فترة ولايته؟ أم أن هناك خللاً آخر؟

الرئيسة التنفيذية لمؤسسة "جوريسكال" الحقوقية الدكتورة سابين الكيك تعتبر "أن تأليف اللجنة انبثق من خلفية تقرير التدقيق الجنائي الذي أشار إلى خلل في إدارة وحوكمة مصرف لبنان. وبالتأكيد، إن قانون النقد والتسليف بحاجة إلى بعض التعديلات، ولكن لا يمكن أن تكون الانطلاقة دائماً من أن الإصلاح يبدأ بتعديل القوانين، إنما العبرة هي في الممارسة الفعلية للنص الموجود. وما من خلاف حول حقيقة أنه لو التزم حاكم مصرف لبنان بالقانون لما كنا وصلنا إلى ما توصل إليه اليوم التدقيق الجنائي. لوضع الأمور في نصابها القانوني الصحيح، علينا وضع نظام داخلي لمصرف لبنان ضمن معايير واضحة، وفق نظم واضحة للحوكمة والشفافية، لهيكليته الإدارية والمالية، لكيفية التصويت على القرارات مع ترسيخ قواعد الحوكمة والشفافية، وأيضاً إعادة النظر بالنظام الإجرائي الداخلي حيث كشف التدقيق الجنائي عن الخلل في كيفية اتخاذ القرارات في نظام الموظفين، في التقاعد، في التنفيعات، في المعايير المحاسبية وغيرها... وهذا هو الأهم".

والمطلوب "ورقة عمل متكاملة، وليس ربط سبب الفشل بالتشريع والتذرّع بكون القانون منقوصاً ما يجعل الأداء غير كامل. طالما أن المنظومة فاسدة والنوايا سيئة، لن يكون التشريع هو الحلّ".

وترى أن "خطوة الرئيس ميقاتي لا تليق بمستوى الشبهات التي أضاء عليها تقرير "ألفاريز ومارسال" والملاقاة الجدية تبدأ بالمحاسبة والمساءلة عن كل الارتكابات. وإذا كانت ثمة مخالفات لقانون النقد والتسليف، فذلك لأن القيّمين على مركز القرار ارتكبوها وليس لأن القانون كان يسمح بها. فمصرف لبنان كما وزارة المال بحاجة إلى تشكيل فريق طوارئ وعلى مستويات عدة؛ حقوقية وقضائية ومالية واقتصادية وإدارية، وليس فقط لجنة تقترح تعديلات تشريعية، وكأن المذنب هو قانون النقد والتسليف".

ولكن مصرف لبنان برّر الأسباب الموجبة لإقراض الدولة أكثر من مرة! ولغاية الأمس القريب طلب الرئيس ميقاتي العون للكهرباء من احتياط المركزي، لأن التطاول على أموال المودعين أصبح أسهل وسيلة لحلّ مشاكل الدولة والوزارات وإداراتها التي ينخرها الفساد والسرقة وهدر الأموال. إلى أي مادة في القانون استند؟

تؤكد هنا الكيك أن "ثمة أكثر من قرار وأكثر من موازنة وأكثر من تصرّف. المصرف لم يحترم بتاتاً نصوص قانون النقد والتسليف عندما أقرض الدولة. بل يلحظ تقرير التدقيق الجنائي تحويلات بمليارات الدولارات لصالح مؤسسة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة غير موّثقة بقوانين تتضمن كفالة من الدولة، كما ينصّ قانون النقد والتسليف في المادة 92 منه، وكما كان يحصل في ولايات حكام سابقين للمركزي".

أما خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد الدكتور محمد فحيلي فيقول لـ"النهار" إن "كل التعاميم التي كان يصدرها حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة كان يحصّنها بقانون النقد والتسليف. وفي بعض الأحيان، لجأ إلى قانون الموجبات والعقود لتحصين مواد عدد من التعاميم الأساسية. ولكن لدى مراجعتي بعض مواد قانون النقد والتسليف، الذي أفهمه أكثر من قانون الموجبات والعقود، وجدت أن بعض مواد قانون النقد والتسليف التي ذُكرت في بعض التعاميم لا دخل لها بمضمون التعميم. نعم خالف سلامة القانون. أنا لست بموقع الحكم، ولكن هذه التعاميم التي صدرت خلال الأزمة يجب التوقّف عندها لإصدار قانون الكابيتال كونترول، أو حتى لإدخال تعديلات على قانون النقد والتسليف".

وفي رأي فحيلي، "ما يجب اللجوء إليه هو إعادة النظر بصلاحيات ومهام لجنة الرقابة على المصارف وبهيكلية مصرف لبنان؛ كيف يجب أن يكون عمل لجنة الرقابة وهيئة التحقيق الخاصة؟ هل يجب أن تكون تحت سلطة مصرف لبنان؟ ما هي مهام وما هو عدد نواب الحاكم؟ مَن الجهة التي تحدد مسؤوليات نواب الحاكم، أم يجب تحديدها بموجب قانون؟ كل هذه الأمور ضرورية ويجب الأخذ بها إلى درجة ترقى إلى مستوى تعديل قانون النقد والتسليف. ربما رجال القانون والدستور هم المخولّون بمراجعة هذه النقاط والإجابة عن هذه الأسئلة".

ولكن السؤال يبقى إذا دخلنا في مرحلة التعافي الاقتصادي والنقدي: هل يجب الإبقاء على هذا القانون كما هو؟ لأن الممر الإلزامي لعودة الانتظام إلى القطاع المالي هو إعادة هيكلة المركزي والمصارف التجارية، ما يحتّم إعادة النظر وإعادة صياغة مواد قانون النقد والتسليف، وفق فحيلي.

ويقول: "خلال سنوات الأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية، وبغفلة عن المشرّع عمد مصرف لبنان إلى إعادة صياغة قانون النقد والتسليف اللبناني بأحرف الأزمة النقدية والمالية والاقتصادية، ولا توجد إثباتات على هذه الانعطافة والانحراف في السياسات النقدية أكثر مما تُظهره بعض التعاميم الأساسية لمصرف لبنان التي ولدت من رحم الأزمات".

يضيف فحيلي: "ذهب مصرف لبنان في هذه التعاميم الأساسية التي أصدرها حيث لم تجرؤ ولن تجرؤ السلطة السياسية الحاكمة والمتحكّمة عن طريق:

- تحديد المجلس المركزي لمصرف لبنان الودائع المؤهلة وغير المؤهلة.

- تحديد عدد من أسعار الصرف التي تُستعمل في المعاملات الرسمية والسحوبات الاستثنائية من الودائع المعنونة بالعملة الأجنبية.

- تحديد حدود للسحب من الحسابات المكوّنة بالعملة الأجنبية.

- إنشاء عملة جديدة أطلق عليها إسم "الدولار المحلي" وأعطى المجلس المركزي للمصرف صلاحية مطلقة في تحديد سعر هذا الدولار وكيفية التعامل به في السحوبات والدفع.

- غضّ النظر عن ارتكابات المصارف التي تنتهك قانون النقد والتسليف وقانون الموجبات والعقود، واكتفى بأنها كانت دائماً تتمسك بالالتزام بتعاميم مصرف لبنان، وكأن هذه المصارف تلتزم اليوم بقانون جديد للنقد والتسليف".

اختلفت قراءة التعديات والانتهاكات في التقرير، ولكن ما أصبح مؤكداً أن البعض قصد ما يريد تسليط الضوء عليه من مخالفات تطابق حساباته، ومعظم المنظومة الحاكمة ممن تعاقب أفرادها على السلطة، تنصلّت من المسؤولية التي كانت تملي على سلامة هذه الإجراءات أو على الأقل تسارع إلى تهنئته ومباركة جهوده متغاضية عن يوم الحساب.

 

اقرأ في النهار Premium