في بلد دخلت أزمته عامها الثالث، لا يمكننا تخيّلُ ارتفاعٍ في وارداته، ولو أنّ لبنان يعتمد بشكل كبير في استهلاكه على الاستيراد. تُظهر الأرقام الصادرة عن الجمارك اللبنانية أنّ إجماليّ الواردات هذا العام بلغ 17.8 مليار دولار في الأشهر اﻟ 11 الأولى من العام 2022، ما يشكّل ارتفاعاً بنحو 44 في المئة عن الفترة نفسها من العام السابق، حيث بلغت 12.4 مليار دولار. لكنّ عاملين حدثا هذا العام ساهما في هذا الارتفاع هما: ارتفاع أسعار السلع النفطيّة والغذائيّة عالميّاً، وإقرار الدولار الجمركيّ محليّاً.
بحسب أرقام "الدولية للمعلومات"، وحتّى أواخر شهر تشرين الثاني، استورد لبنان خلال العام 2022 بنحو 17 مليارًا و800 مليون دولار سلعًٍا وبضائعَ، وقد يرتفع هذا الرقم إلى نحو 19 مليار دولار مع انتهاء الشهر الأخير من العام، بحسب ما يشرح الباحث في "الدولية للمعلومات"، محمّد شمس الدين. وهذا الرقم هو معدّل مشابه لمعدّل الواردات في العام 2019 من الفترة نفسها، عندما بلغت قيمة الواردات في لبنان 19 مليارًا و200 مليون دولار. وفي الفترة نفسها من العام 2021 استورد لبنان بنحو 12 مليارًا و372 مليون دولار، أمّا في العام 2018 من الفترة نفسها، فكانت واردات لبنان تُقدَّر بنحو 20 مليار دولار.
لبنان، وخلال العام الحاليّ، استورد أكثر بـ 5 مليارات دولار من العام الماضي، فما السبب؟ في حديثه لـ "النهار"، يرى شمس الدين أنّ قيمة الواردات المرتفعة هذه، لا تعني أنّ نسبة الواردات ارتفعت، إنّما يعود هذا الأمر إلى سببين. الأوّل، زيادة الاستيراد لاستباق الدولار الجمركيّ، ففي العام الماضي، استورد لبنان 20 ألف سيارة، وارتفع هذا الرقم إلى 29 ألفًا هذا العام. والسبب الثاني، ارتفاع أسعار السلع عالميّاً من موادّ غذائيّة وحبوب ومشتقّات نفطيّة.
وعمّا إذا كان الجانب السوريّ مستفيداً من هذه الواردات، يسأل شمس الدين:"كيف يمكن التأكّد من أنّ هذه السلع تذهب إلى سوريا؟". فبنظره إذا كان هناك تهريباً للمحروقات مثلاً، فقد يكون على مستوى فرديّ ومحدود جدّاً يقتصر على بضع صفائح من البنزين في سيارة صغيرة وليس شاحنات، وبالتالي ليس تهريباً بملايين الصفائح. إضافة إلى أنّ سوريا ليست بحاجة مثلاً إلى سلع كالأدوية والألبسة الآتية من لبنان، فهم يصنعون هذه السلع، ولبنان يأتي بالأدوية أحياناً من سوريا، "وهذا حديثٌ في السياسة أكثر منه في الاقتصاد".
وفي ما يتعلّق بالسلع الأكثر استيراداً، لا تزال السلع نفسها التي تُستورد بشكل كبير تتصدّر قائمة الواردات في لبنان، مثل السيارات والمشتقّات النفطية (نحو 3 مليارات دولار). وحتى استيراد الهواتف الذكية والإلكترونيّات والذهب تراجع، لكنّ المفارقة أنّ استيراد العطور ومستحضرات التجميل ازداد هذا العام، فبينما كان استيراده بـ 12 مليار دولار، أصبح بـ 16 مليار دولار.
من جهته، يصف الخبير الاقتصاديّ، الدكتور لويس حبيقة، رقم الـ 19 مليار دولار بالـ "مفاجئ المبرَّر"، إذ لا يمكن تخيّل أنّ لبنان الواقع في أزمة، قد يستورد بهذا الحجم، في ظلّ وضع اقتصاديّ سيّئ، بينما رقم وارداته هذا العام يقترب من رقم الـ 20 مليارًا الذي سجّله العام 2018، أي ما قبل الأزمة.
وفي حديث لـ "النهار"، يوضح أن ليس صعباً تفسير هذا الارتفاع، فمردّه إلى أنّ الدولار الجمركيّ متداوَل منذ بداية العام، إلّا أنّه لم يُقرّ إلّا بداية الشهر الجاري، ما دفع التجّار إلى الاستيراد بشكل كبير ولمدّة أشهر تحسّباً لبدء العمل بهذا القرار، لاسيّما السيارات التي تمّ استيرادها بشكل هائل، كون تغيير قيمة الجمرك على السيارة سيرفع من سعرها بشكل هائل، لذلك شهدنا استيراداً استثنائيّاً. إضافة إلى ارتفاع أسعار الشحن عالميّاً وأسعار الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا.
لكنّ الاستيراد هذا لن يستمرّ بهذه الوتيرة في العام المقبل، بنظر حبيقة، لا بل سينخفض، إذ إنّ تجارًا كثيرين لن يستطيعوا تصريف هذه السلع، لاسيّما السيارات التي لا يمكن تخزينها لأنّها تفقد قيمتها.
وعن إمكانية أن تستهدف هذه الواردات السوق السورية إلى جانب السوق اللبنانية، فإنّ حبيقة لا يوافق على "هذا الكلام الشائع والقائل بأنّ لبنان يستورد لاقتصادَين". فأوّلاً، لا يجب خلط الجانب السياسي بهذا الملفّ الاقتصاديّ، ومقولة أنّ الاستيراد لاقتصادَين هو تجنٍّ اقتصاديّ"، وفق حبيقة. إضافة إلى أنّ لبنان لطالما كان منطقة عبور للسلع التي تذهب إلى سوريا والأردن، وبالتالي، لا يمكن التحقّق من أنّ البضائع تهرّب إلى سوريا.
لكن هل أنّ بلدًا يستورد بـ 18 مليار دولار خلال سنة بقيمة تقترب من الأرقام ما قبل الأزمة يُعتبر فعلاً بلداً منهاراً؟ يجيب حبيقة ألّا علاقة لحجم الواردات الكبير بحال البلد الاقتصادية، فالانهيار لا يمنع التجّار من استيراد وبيع سلعهم، ولا الناس من الشراء. إضافة إلى أنّ هناك تقديراتٍ بأنّ اللبنانيّين يخزّنون ما يقرب من 7 إلى 8 مليارات دولار، كما أنّ التحويلات الخارجيّة تدخل إلى لبنان وقدّرها البنك الدوليّ العام الماضي بنحو 7 إلى 8 مليارات دولار وهو رقم كبير، ناهيك عن المبالغ التي يُدخلها اللبنانيّون معهم بدون تصريح إحصائيّ.