في الوقت الذي يرزح لبنان تحت وطأة أزمات متعدّدة بدأت منذ أربع سنوات، كان لافتاً في العامين الماضيين، وحتى اليوم، نمو الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية، لاسيما قطاعات الصناعة والمطاعم والسياحة، في ظلّ غياب الظروف الملائمة للاستثمار، وعلى رأسها غياب القروض الاستثمارية التي لطالما منحتها المصارف، إلى جانب انهيار القطاع المصرفي وتراجع البنية التحتية وأزمة الدولار والكهرباء التي أنهكت جميع القطاعات. فكيف نشرح هذا التناقض؟
بالحد الأدنى، يمكن اعتبار اقتصاد لبنان حالياً في حالة ركود ما بين عامي 2022 و2023. ومن المتوقَّع أن يسجّل تراجعاً مع أواخر العام، بالتوازي مع تراجع حجم الاستيراد في أول سبعة أشهر من هذا العام مقارنة بالعام الماضي، ممّا ينعكس على حجم الاستهلاك، الذي ينعكس بدوره على حجم الناتج المحلّي.
وفي حديثه لـ"النهار"، يشدّد عضو المجلس الاقتصادي الاجتماعي عدنان رمال على أنّ لبنان يُعتبر فريداً؛ فالمغتربون الذين لا يقطعون لبنان يوازون بالحجم المقيمين فيه، وهم شكّلوا 80 – 90 في المئة من الحركة النشطة في الموسم السياحي. كذلك، فإنّ استقرار سعر الصرف، وإن كان على سقوف عالية، يشكّل نوعاً من الثقة لدى المواطن للإنفاق من دون خوف من التقلّبات.
لذا، شكّلت هذه العوامل مؤشرات إيجابية في قطاع السياحة بجميع ما يحمله من متفرّعات، وشجّع المستثمرين على التوسّع في هذه القطاعات الناشطة، واستثمار المزيد فيها، بالرغم من الظروف الصّعبة الراهنة.
برأي رمال، معظم الاستثمارات الجديدة التي تنطلق في لبنان هي مِن قبل مستثمرين موجودين في السوق أصلاً، وينوون التوسّع في استثماراتهم مستفيدين من فرص راهنة، ويهدفون إلى تنويع علاماتهم التجارية. كذلك، المؤسسات الضخمة دخلت في منافسة في ما بينها على توسيع نشاطاتها في لبنان.
وفيما شهد قطاع الصناعة نمواً لافتاً منذ بداية الأزمة، وحلّ المنتَج اللبناني أولوية لدى شريحة كبيرة من اللبنانيين نتيجة تراجع الاستيراد وارتفاع أسعار المنتجات المستورَدة، يلفت رمال إلى أنّ تصدير المنتجات العام الماضي، تراجع عن العام 2021 بحدود 600 مليون دولار بسبب ارتفاع تكلفة التصنيع، ولم يعد المنتَج اللبناني بسعره منافساً بين الأسواق المجاورة. وهذا العام، يشهد التصدير تراجعاً إضافياً. لكن الاستهلاك المحلي، ونتيجة تراجع القدرة الشرائية لدى المواطن والبنود الضريبية في موازنة 2022 التي ستُفرض على الاستهلاك، وتحديداً على جميع السلع التي لها شبيه في لبنان، سيزداد تراجع الاستهلاك لدى المواطن.
وقد نشط في القطاع الصناعي بعض المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في ظل الأزمة، وهي تنتج منتجات بأسعار لا تزال أرخص من المستورَدة، بالرغم من أن تكلفة الصناعة عادت وارتفعت إلى ما قبل الأزمة. بالتالي - وفق رمال - نشهد ظاهرة استثمارية في هذا النوع من المؤسسات، وهو أمر إيجابي ومفيد جداً للاقتصاد. لكن علينا أن ننظر إلى مدى استدامة هذه المؤسّسات في ظلّ العوامل السابقة المذكورة، إلى جانب غياب الحدّ الأدنى من الدّعم والتحفيزات من الدولة.
لذلك، يرى رمال أنّ القطاع الصناعي يختلف عن قطاع المطاعم في هذا الإطار بأنّه يضمّ مستثمرين جدداً بشكل كبير فيه، وأعداد المؤسسات الصناعية الصغيرة أكبر بكثير من المتوسطة منها لغياب القروض الاستثمارية والتحفيزات. فأكبر هذه المصانع تكلفتها لا تتجاوز الـ100 أو الـ200 ألف دولار.
لكن لا شك في أنّ هذه الأنشطة تخلق سوقاً لها، وتوفّر فرص عمل، لكنّها لا تضيف زخماً إلى الأسواق. والناتج المحليّ سيظهر تراجعاً أو استقراراً هذا العام عن العام الماضي. ففي العام الماضي تمّ احتسابه من قبل البنك الدولي على سعر صرف 38000 ليرة، أمّا في هذا العام فسيتم احتسابه على سعر 90000 ليرة.
من جهته، يصف رئيس "شبكة الشركات العائلية"، ريكاردو حصري، في حديثه لـ"النهار"، واقع الاستثمارات في ظل الأوضاع الراهنة بـ"الأعجوبة اللبنانية". فاللبنانيون بطبيعتهم يتحدّون الصعاب، وعلى مدى العقود الماضية، أثبت القطاع الخاص أنّه على قدر هذا التحدّي. وبمجرّد أن يرى أحدهم أنّ في قطاع ما نبض حياة، فلا يتأخّر عن الاستثمار فيه واقتناص الفرص، والظاهرة الحالية من الاستثمارات هي من لبنانيين بشكل أساسي.
وفي حين أقفل عدد كبير من المطاعم والملاهي يقدّر بنحو 40 في المئة من مؤسسات هذا القطاع، لكنه استطاع تجاوز الأزمة. وصحيح أنّ القدرة الشرائية تراجعت لدى الناس لكن لا يزال اللبنانيون يترفّهون ويرتادون هذه الأماكن وإن كان بإنفاق أقلّ.
لذلك، برأي حصري أننا نشهد طفرة استثمارات في القطاع السياحي والمطعمي أكثر من القطاعات الأخرى مثل التكنولوجيا والصناعة، التي يتردّد الأشخاص في الدخول إليها، بسبب غياب شروط العمل الأساسية فيها كالبنية التحتية من كهرباء وإنترنت.
بالتالي، فإنّ الاستثمارات المطعمية هي الاستثمارات السهلة التي لا تموت في لبنان. والاستثمارات التي يباشرها كثيرون في لبنان في قطاع المطاعم تُعتبر كبيرة بالنسبة إلى أهمّ المدن في الخارج، نظراً إلى أنّ اللبناني مبتكِر في عالم المطاعم، ويُصدّر هذه الإبداعات إلى الخارج، ويسخو كثيراً على هذا القطاع. ومقاربة اللبناني في الاستثمارات المطعميّة مختلفة عن باقي العالم.
برأي حصري، حركة الاستثمارات الحالية تحمل جانباً توسّعياً لمؤسسات موجودة، وجانباً تجارياً لمؤسسات جديدة تدخل الأسواق اللبنانية.