رولى راشد
يشكو مجلس النواب من عدم تسلّمه أياً من القوانين الإصلاحية، التي من شأنها ضمان استرداد المودعين أموالهم من المصارف، باستثناء قانون الانتظام المالي الذي يحصد رفضاً نيابياً واسعاً. وما وصل إليه بعد مرور 4 سنوات من الأزمة يفتقر إلى الحدّ الأدنى من الجدّية لتحقيق ولو جزء بسيط ممّا تدّعيه الحكومة، ويفتقر إلى تقديرات علمية ذات أرقام رسمية لموجودات المصارف وعائدات القطاع العام.
اليوم، يقفز مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف اللبنانية إلى الواجهة مجدداً بعد وصوله إلى مجلس الوزراء مع استياء عارم لدى أصحاب المصارف، الذين بدأوا يعدّون العدّة قبل دخول مرحلة العدّ العكسي لغربلة القطاع وانسحاب غير المؤهّلين من السوق.
الأزمة المصرفية في لبنان فريدة من نوعها، هذا لأن السلطة السياسية شريكة أساسية بالتسبّب بالانهيار النقدي والمالي والاقتصادي. ويبرز الهاجس الأكبر من اتّخاذ قرار بتصفية مصارف، إذ سيؤدي حتماً إلى الحجز على ثروات المساهمين وأعضاء مجالس الإدارات وكبار المديرين والمفوّضين بالتوقيع. وهذه كأس مرّة لا يريد أحدٌ تجرّعها.
بغض النظر عمّا يتضمّنه مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف، الذي يستند إلى مشروع قانون إعادة التوازن إلى الانتظام المالي، وفق ما يلحظه بعض الخبراء المصرفيين، تستبق بعض المصارف اللبنانية إقرار هذه القوانين بتسييل موجوداتها لصالح كبار المساهمين حفاظاً على مكاسبه، خوفاً ممّا قد يتسبب به إفلاس مصارفهم من خسارة لهم في سياق تسديد أموال المودعين من حصيلة بيع موجودات المصرف.
أين هي مؤشرات إفلاس المصارف في القانونين المذكورين؟
فحيلي
الخبير في المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي يعتبر "أن الأزمة المصرفية في لبنان أوصلتنا إلى مرحلة تُصنف فيها المصارف بين مَن هي قادرة على الاستمرار في خدمة الاقتصاد، والتي دعمت وجودها وتواجدها في لبنان، وبين مصارف أخرى، بالكاد تغطّي مصاريفها التشغيلية مع رأسمال سلبيّ بامتياز؛ وهي معروفة، سواء صدر قانون إعادة هيكلة للقطاع أو قانون الانتظام المالي أم لم يصدر. وإن تم تفعيل عمل لجنة الرقابة على المصارف وتمكينها من العودة إلى ممارسة مهامها فسوف تضع اليد عليها. وفي هذه الحال، من البديهي، إما أن يتمّ دمجها بأخرى أو الاستحواذ عليها من قبل مصارف أخرى متمكّنة، أو تصفية موجوداتها.
استباقاً لذلك، يحاول بعض المصرفيين تهريب بعض الموجودات ببيعها والسيطرة على إيراداتها للصالح الفرديّ وليس لصالح المصرف. وبات معلوماً أن بعض المؤسسات المصرفية أنشأت شركات مستقلّة كانت تستملك العقارات التي كانت تأخذها استيفاء للدّين، وتسدّد ثمن العقار للمصرف في عملية دفتريّة حسابية فقط خالية من أيّ تعزيز فعليّ للرأسمال العائد للمصرف".
ويتابع: "أصلاً القوانين الإصلاحية التي هي قيد الدرس مثل الكابيتال كونترول وإعادة هيكلة المصارف أو الانتظام المالي لا تتناول بالضرورة إفلاس المصارف كمادة أساسية فيها.
فقانون الكابيتال كونترول هدفه تنظيم العلاقة بين المصرف والمودع. وقانون الانتظام المالي يجب أن يهدف إلى تنظيم العلاقة بين المواطن والمصرف. ويدفع باتجاه إعادة الحياة إلى القطاع المصرفي من خلال العودة إلى اعتماد وسائل الدفع المتاحة بوساطة المصارف لتسديد فواتير المصاريف التشغيلية والاستهلاك، وتسهيل عودة المؤسسات إلى توطين رواتب موظفيها في المصارف.
قانون إعادة هيكلة المصارف هو المعضلة الكبرى لأنّه بحاجة إلى موارد وهي اليوم غير متوفّرة. فهو يتطلّب خطوة أساسية من قبل السلطة التشريعية، التي - بالاتفاق مع السلطة التنفيذية - عليها سن قوانين مرتبطة بالحدّ من قدرة الدولة على الاستدانة، والتوجه نحو إعادة هيكلة الدين العام، خصوصاً في ما يتعلق منه بالشق الأجنبي، فتدرك المصارف كيفية جدولة التوظيفات الهالكة وامتصاص الخسارة الناتجة عن ذلك".
الموجودات والمسؤولية
من اللافت أنه ثمة إصرار نيابي على إجراء تقييم لموجودات المصارف قبل إعادة هيكلتها، وهذا لا يحصل بشكل جديّ.
في المقابل، وفق قانون إعادة هيكلة القطاع ستكون نسبة كبيرة من موجودات المصارف مرهونة بإرادة الدولة التي تحتفظ بحقها في تحديد مداها وقيمتها وطريقة تسييلها.
كما أن أياً من القوانين المعدّة لم تتضمن أي إشارة إلى مسؤولية الدولة وضرورة تحمّلها المسؤولية في الخسائر وردّ أموال المودعين.
وبناء عليه، فإن خوف المصارف مستمرّ من ضخّ رساميل إضافية طالما توزيع الخسائر يقع على عاتقها.
من هي المصارف التي تعمل على تسييل موجوداتها وتحويل الأموال إلى الخارج؟ وهل هذا يتم تحت إشراف لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان أم بغيابهما؟
برأي فحيلي "ما من مصرفيّ حقيقيّ يلجأ إلى تسييل موجودات مصرفه بهذا الشكل الملتوي. هذه الفئة تصلح تسميتها بـ"البنكرجية". فالمصرفي الذي يعمل بمسؤولية ومهنية يضع كلّ شيء على الطاولة، ولا يخفي شيئاً، خصوصاً في ظل غياب الثقة بين المصارف والمودعين.
بالتأكيد، لجنة الرقابة مغيبة؛ فالمصارف تحاول تهريب الأموال بعيداً عن لجنة الرقابة. وأكبر دليل مع العودة إلى التعميم رقم 154، إذ يطلب مصرف لبنان من المصارف "حثّ كبار المساهمين والمستوردين والسياسيين من عملائها، الذين قاموا بتحويلات تفوق قيمتها الـ500 ألف دولار أميركي أو ما يوازيها بالعملات الأجنبية إلى الخارج منذ تموز2017، على إعادة من 15 % و30% من القيم المحوّلة وإيداعها في حساب خاص مجمّد لمدة خمس سنوات. وإن كان العميل المعنيّ أحد رؤساء أو أعضاء مجالس إدارة مصرف من المصارف أو أحد كبار المساهمين فيها، أو أحد الأشخاص المعروفين سياسياً، أي الذين يشغلون مناصب تنفيذية أو تشريعية أو إدارية عليا في الدولة، فتصبح النسبة التي تقتضي إعادتها وتجميدها لمدة خمس سنوات 30% من قيمة التحويلات التي تمت إلى الخارج".
وحتى اليوم ما زال بعض المصارف محصناً بالسرية المصرفية، فما من أحد يعلم كيف يتصرف، بغياب شبه كلي للجنة الرقابة."
في غضون ذلك، ما هو مصير المودعين وأموالهم؟
المودعون اليوم مقسمون إلى عدة فئات أهمها: فئة تملك رفاهية الانتظار وهي في موقع جيد، خصوصاً أن من بينها من استفاد من التعميم الأساسي رقم 158، فلا يضطر إلى سحب أيّ دولار على أساس التعميم رقم 151. وهم موجودون في مصارف مكّنت وجودها في لبنان، وهي قادرة على الاستمرار في خدمة الاقتصاد. وهنا يطمئن فحيلي إلى أن الوقت لصالح هؤلاء، إذ إنهم سيحصلون على أموالهم آجلاً، وفي الوقت القريب. وفئة أخرى تشمل المودعين الأكثر تضرّراً من المتقاعدون الذين كانوا يستفيدون من الفوائد كمصدر دخل أساسي لهم، فاضطروا، خلال سنوات الأزمة، إلى سحب ودائعهم تحت أحكام التعميم رقم 151 لسدّ فواتير الاستهلاك.
وباعتقاده، من المفترض إيجاد قوانين للتعويض على هذه الفئة.
استعادة الثقة والمصداقية في النظام المالي والمصرفي اللبناني عملية شاقة، لكنّها ملحة، وتتطلب قياديين وحوكمة رشيدة للقطاع المصرفي، خصوصاً أنه لاعب رئيسي في النهوض بالاقتصاد.
لذلك، لا بدّ من اعتماد إصلاحات تنظيمية وقانونية لإدارة نظام الرقابة على القطاع النقدي والمالي بطريقة تسمح بتحقيق استقلالية تامة لمختلف الهيئات الناظمة، التي لديها أدوار مختلفة أو حتى متناقضة في بعض الأحيان.
كذلك يرى فحيلي أن "قدرة القطاع الخاص على التأقلم مع المتغيرات الاقتصادية كانت مميّزة جداً. واليوم، بعض المصارف التي تستمر في خدمة الاقتصاد خفّفت جداً من مصاريفها التشغيلية، وضخّت رأسمالاً جديداً، وعزّزت السيولة الخارجية في حساباتها لدى المصارف المراسلة ملتزمة بكلّ متطلبات الهيئات الرقابية. وفي هذه المرحلة، هي الوحيدة التي تموّل التجارة الخارجية في لبنان.
لا يوجد قطاع مصرفي اليوم بل مصارف. ومن الضروري إعادة تكوين قطاع مصرفي سليم. والأهم أن يحظى بثقة تامّة من قبل مكوّنات القطاع الخاص ومكوّنات الأسواق المالية والمصارف المراسلة ومؤسسات التصنيف الائتماني. وهذا يتطلّب قوانين."
من هي المصارف التي تبيع موجوداتها خلسة؟
الإجابة عند السلطة صاحبة الاختصاص وهي لجنة الرقابة على المصارف.
النقطة الأساسية لتقييم القطاع المصرفي والممّر الإلزامي لذلك هو التعميم الأساسي رقم 154 الذي صدر بموافقة جميع أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان. الأرضية حاضرة وجاهزة لتنفيذ القرارات الصحيحة ولكن الإرادة غائبة!