لم يشأ العام 2022 أن يغادر اللبنانيين من دون أن يترك بصمة طبعها بقوة على كل مفاصل الحياة الاقتصادية والمالية، ولكنها تحديدا كانت أكثر تأثيرا وحفرا على جسم الليرة اللبنانية فتركت عليها ندوبا كبيرة لا يشي الواقع بأن العام المقبل سيكون موعد شفائها.
فقد شهد العام 2022 مزيدا من التفلت في سعر صرف الدولار في السوق الموازية على رغم كل التدابير الاستثنائية التي اتخذتها السلطات النقدية لضبط سلوكيته، وعلى رغم الاتفاق المبدئي على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي في نيسان الماضي، والحدث التاريخي الذي شهده لبنان في تشرين الأول المنصرم والمتمثل بتوقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية. كذلك، واصلت سوق سندات اليوروبوندز اللبنانية هبوطها الحر إلى مستويات دنيا غير مسبوقة، وظلت سوق الأسهم تسلك مسلكاً تصاعدياً بالدولار المحلي في ظل استمرار مساعي التحوط تجاه الأزمات.
وفي ما خص آفاق العام 2023، قال كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث في بنك عوده الدكتور مروان بركات لـ"النهار" إن "لبنان على مفترق طرق مع نهاية سنة 2022 وبداية العام 2023، أما النهوض وإما التدهور. ففي حال تحقق السيناريو السياسي– الاقتصادي الإيجابي، يبدأ البلد بالنهوض من كبوته القاتمة ويحدث شيء من الاستقرار في الأسواق المالية. ويتمحور مثل هذا السيناريو الإيجابي حول انتخاب رئيس جديد للجمهورية في أسرع وقت وتشكيل حكومة كفيّة في وقت قريب، وحول اتفاق شامل مع صندوق النقد الدولي على أساس الاتفاق المعقود على مستوى الموظفين في نيسان الماضي، وذلك بعد تأمين الشروط المسبقة لموافقة مجلس إدارة الصندوق. ويؤسس ذلك للحصول على مساعدات خارجية واستثمارات باتجاه لبنان. ويتعزز هذا السيناريو مع بداية التنقيب عن الغاز (بعدما انجز اتفاق الترسيم) والذي في حال أتت نتائج التنقيب إيجابية يعزز عامل الثقة في الاسواق".
في حال تحقق هذا السيناريو الايجابي، يتوقع بركات أن يسجل الاقتصاد الفعلي نموا إيجابيا يراوح ما بين 4% الى 5% في العام 2023 يحركه الاستهلاك والاستثمار الخاص، ويستقر سعر صرف الليرة على مستوى قريب من المستوى الحالي وينخفض معدل التضخم الى مستوى مقبول ما دون الـ30% بعدما سجل نسبة 160% في العام 2022، ما يؤدي إلى استقرار عام في الأسواق المالية.
أما السيناريو الآخر، فهو بقاء الوضع الراهن على حاله (الستاتيكو)، أي التأجيل المتواصل للانتخابات الرئاسية، وتعثر تشكيل حكومة، وغياب الإصلاحات، وعدم الالتزام بمتطلبات صندوق النقد الدولي وتاليا غياب البرنامج النهائي معه. ومن شأن هذا السيناريو أن يؤدي الى مزيد من الركود الاقتصادي وانهيار شديد لسعر العملة الوطنية، خصوصا مع استنزاف مخزون العملات الصعبة في البلاد وفي ظل خلق زائد للنقد بالليرة اللبنانية وتضخم مفرط في أسعار السلع الاستهلاكية وضغوطٍ اجتماعية-اقتصادية جمة على الأسر اللبنانية بشكل عام. في ظل هذا السيناريو المعاكس، يسجل الناتج المحلي الإجمالي نسبة نمو سلبية بعدما تراجع حجم الناتج الحقيقي بنسبة 33% منذ بداية الازمة في العام 2019. أما سعر صرف الدولار فقد يتجاوز ضعفَي مستواه الحالي في ظل التخبط السياسي الاقتصادي، ويسجل بالتالي التضخم في الأسعار نسبة مرتفعة تتجاوز الـ100% للعام الرابع على التوالي مع ما يحمله كل ذلك من تدهور إضافي في الأسواق المالية عموما.
في ظل تلك المفارقة، يأمل بركات أن يترفع المسؤولون السياسيون عن مصالحهم الضيقة ويعززوا القواسم المشتركة في ما بينهم ويحدّوا من نسب التباين والتجاذب ويلجوا طريق التسوية والإصلاح.
سوق النقد والقطع
ووفق التفاصيل التي أوردها التقرير الأسبوعي لبنك عوده في جردته السنوية، فقد شهد العام 2022 زيادة لافتة في حجم النقد المتداول خارج مصرف لبنان بأكثر من 60% أو بما يوازي 29 تريليون ليرة لتبلغ ما يقارب الـ75 تريليون ليرة في منتصف كانون الأول 2022. ومردّ ذلك إلى التضخم الملحوظ في حجم النقد المتداول منذ منتصف أيلول 2022 والذي ترافق مع ارتفاع في احتياطات مصرف لبنان من النقد الأجنبي. ولكن للمفارقة هذا التضخم في حجم النقد المتداول ترافق مع ارتفاع في كلفة "الكاش" بالليرة في سوق النقد من 5.3% في نهاية كانون الأول 2021 إلى 13.0% في نهاية كانون الأول 2022، نتيجة بعض الإجراءات التقنية المتخذة من السلطات النقدية للجم الآثار التضخمية لزيادة حجم النقد المتداول، علما أنها وصلت إلى مستوى قياسي نسبته 35% في نيسان 2022. توازيا، أظهرت المجاميع النقدية أن الودائع المصرفية المقيمة تقلصت بقيمة 6311 مليار ليرة منذ نهاية العام 2021 حتى منتصف كانون الأول 2022، بشكل رئيسي نتيجة انخفاض الودائع المصرفية المقيمة بالعملات الأجنبية بقيمة 9037 مليار ليرة (أي ما يعادل 5994 مليون دولار وفق سعر صرف 1507.5 ليرات).
على رغم مرور عام كامل على العمل بالتعميم 161 الرامي لضبط سلوكية سعر صرف الدولار في السوق الموازية، واصل سعر صرف الدولار في السوق السوداء تحليقه بشكل مطرد، كاسرا حواجز عدة، حيث قفز من 27500 ليرة في نهاية العام 2021 إلى 43300 ليرة في نهاية العام 2022، أي بارتفاع نسبته 58%. ويعزى هذا التدهور غير المسبوق في سعر صرف الليرة مقابل الدولار في السوق السوداء لأسباب عدة، منها الوضع السياسي الداخلي المأزوم، وعدم التوصل الى صيغة توافقية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية أو تشكيل حكومة فاعلة، وعدم الالتزام بالأجندة الإصلاحية لصندوق النقد الدولي، ناهيك عن التضخم الكبير في حجم النقد المتداول بالليرة خارج لبنان. أضف إلى ذلك النزف المستمر في احتياطات مصرف لبنان من النقد الأجنبي والتي تقدّر حالياً بنحو 10 مليارات دولار. أما في ما يتعلق بمنصة "صيرفة"، فقد رفع مصرف لبنان أخيرا سعر صرف الدولار عبر المنصة إلى 38000 ليرة ما أدى إلى تقليص الفجوة بين سعر "صيرفة" وبين سعر صرف الدولار في السوق السوداء، علماً أن هذا الإجراء يسهم في تخفيف الحاجة الى ضخ الليرات لتسديد رواتب القطاع العام، كما يسهم في التقليل من الطلب الاستيرادي للدولار عبر "صيرفة".
سوق الأسهم وسندات اليوروبوندز
واصلت سوق الأسهم ارتفاعها الملحوظ خلال العام 2022 بنسبة 37.2% والذي أعقب زيادة نسبتها 48.1% في العام 2021. ويأتي ذلك بخاصة نتيجة الارتفاع الكبير لأسعار أسهم "سوليدير" بأكثر من 80% إلى حدود 60 دولارا في إطار مبادرات التحوط ضد الأزمة، علماً أن أسعار الأسهم مسجّلة بالدولار المحلي. أما الأسهم المصرفية فسجّلت انخفاضاً في أسعارها بنسبة 9.1% في المتوسط خلال العام 2022. وجاءت الرسملة البورصية في سوق الأسهم اللبنانية على غـرار ارتفاع الأسعار في البورصة، بحيث زادت بنسبة 37.2% في العام 2022 إلى 14578 مليون دولار في نهاية العام 2022. وزادت القيمة الإجمالية لعمليات التداول في بورصة بيروت بنسبة 24.2% سنويا إلى 440 مليون دولار في العام 2022، علماً أن أسهم "سوليدير" استأثرت بحصة الأسد من النشاط (95.2%). ومن جرّاء ذلك، بلغ معدل الدوران الإجمالي في بورصة بيروت 3.0% في العام 2022 مقابل 3.3% في العام 2021.
أما أسعار سندات اليوروبوندز اللبنانية فواصلت هبوطها الحرّ خلال العام 2022 حيث بلغت مستويات دنيا غير مسبوقة راوحت ما بين 5.50-5.88 سنتات للدولار الواحد في نهاية كانون الأول الحالي بالمقارنة مع 9.88 -10.63 سنتات للدولار الواحد في نهاية العام 2021 وبعد انخفاضات حادة سجلتها في العام 2020 إثر تخلف الدولة عن دفع مستحقاتها. ويعكس هذا الهبوط في أسعار سندات اليوروبوندز انغماس البلاد في فراغ دستوري غير مسبوق وعدم تلبية لبنان متطلبات صندوق النقد الدولي بانتظار أن يصار إلى توحيد سعر الصرف من قِبل السلطات اللبنانية، وإقرار المجلس النيابي مشروع قانون "الكابيتال كونترول"، ومصادقة البرلمان على قانون طوارئ لإعادة إحياء المصارف. في هذا السياق، أشار بنك الاستثمار العالمي Goldman Sachs في تقرير في نهاية العام 2022 إلى أنّ الأمر قد يستغرق أشهرا قبل تشكيل حكومة فاعلة في لبنان، وأنه حتى في حال تم تشكيل حكومة فإنّ قدرتها على تمرير متطلبات صندوق النقد الدولي في المجلس النيابي مسألة تحمل الشكّ. وخلص Goldman Sachs إلى القول إنه في حال تم التوصل إلى إبرام برنامج شامل مع صندوق النقد الدولي في العام 2023، فإن استدامة الدين تتطلب اقتطاعا لسندات اليوروبوندز بنحو 80% في الأفق.