محمد فحيلي، خبير المخاطر المصرفية وباحث في الاقتصاد
أطل علينا مصرف لبنان في مطلع شهر شباط، بقرارين أساسيين عبر التعاميم ١٦٦ و ١٦٧، أعاد بموجب واحد منهما الذكريات المُرّة التي واكبت إصدار التعميم الأساسي رقم ١٥٨ لجهة تحديد الحسابات والأرصدة التي قد تستوفي شروط الحصول على الصدقة الجارية ونحن على أبواب صيام الفصح ورمضان؛ وحدد في التعميم الآخر سعر صرف الدولار المصرفي على ٨٩٥٠٠ ليرة للدولار الواحد، من دون ذكرها ولكنه رسم خريطة الطريق ليسهل على القارئ كيفية الوصول إليها - السعر المعتمد على المنصة الإلكترونية، أو ما بقي منها. هذا القرار يهدف إلى:
● توحيد ميزانيات المصارف؛ وهو شأن تقني ١٠٠%، ومن الأفضل أن ينأى بنفسه المودع عنه، ويخفف من شهيته لسحب دولاراته المثقلة بالمخاطر على سعر الصرف هذا. المصارف لن تستجيب وليست قادرة على الاستجابة لطلب السحوبات على هذا السعر لأن مصرف لبنان لن يوفر السيولة لذلك.
● تبقى، أو أبقى التعميم الأساسي ١٦٧ الضبابية تُخيم على سعر الصرف الرسمي، ١٥٠٠٠ ليرة للدولار الواحد، وإذا مازال سعر صرف يعتمد عليه في المعاملات الرسمية مع وزارة المالية، وغيرها من فروع الدولة بعيداً عن مصرف لبنان.
● إحراج السلطة السياسية وإجبارها على إقرار سعر صرف مختلف (من الأرجح أن يكون دون ٨٩٥٠٠ ليرة للدولار الواحد)، أو وضع ضوابط على السحوبات (وهذا يكون أشبه بقانون كابيتال كونترول) على السعر ٨٩٥٠٠ إذا أبقته على ما هو عليه. وبذلك يكون قرار مصرف لبنان بمثابة مناورة سياسية.
وهذا يؤكد أن المودع غير معني وليس المستهدف من خلال هذه التعاميم. والمؤسف هو أن المودع يطالب بعودة العمل بالتعميم ١٥١، عوضاً عن التمسك فقط بتعديل سعر صرف الدولار المصرفي والدفع إلى إقراره في قانون لكي يستطيع مطالبة مصرفه، استناداً إلى قانون النقد والتسليف، بتأمين سحوباته على هذا السعر من الحسابات البالية وغير المؤهلة، وفق تصنيف مكونات السلطة الحاكمة.
نعم، المودع غير معني بما صدر عن مصرف لبنان في شباط، ٢٠٢٤ إلا بالـ١٥٠ دولاراً شهرياً "حسنة لله"، إذا كان المودع صاحب حظ واستطاع أن يستوفي شروط التأهيل للاستفادة. صحيح أن الكتاب يُقرأ من عنوانه! عنوان التعميم ١٦٦ "إجراءات إستثنائية لتسديد الودائع المكونة بعد تاريخ ٣١ تشرين أول من سنة الـ ٢٠١٩ بالعملات الأجنبية" والموجودة في "حسابات لأجل". يعني إذا كانت وديعتك موجوده بـ"العملة الأجنبية" وتكونت قبل هذا التاريخ، أو إذا كان حسابك "جاري"، وليس لأجل، وتكون وديعتك بعد هذا التاريخ، لا تستوفي الشروط.
ويسترسل التعميم في سلب حقوق المودعين وإذلالهم من خلال اختيار مفردات واختراع شروط لا تليق بالسلطة صاحبة الاختصاص، أي السلطة النقدية، إلا في لبنان.
تسقط الاستفادة من أحكام التعميم ١٦٦،
✔ إن لم يلتزم المودع بإحدى مواد التعميم الأساسي رقم ١٥٤ لجهة الإستجابة لطلب المصرف بإعادة أموال كان قد حولها صاحب الحساب بعد تموز ٢٠١٧، مع التأكيد على أن هذه التحاويل، إن حصلت، كانت قانونية.
✔ إذا شهد "الحساب لأجل" حركة شيكات مشبوهة تشير إلى أنه كان هناك تجارة بالشيكات، وتقع مسؤولية عدم السماح بتحريك حساب لأجل بالشيكات على المصرف.
✔ إذا حول المودع وديعته التي كانت مكونة أصلاً بالليرة اللبنانية إلى الدولار بما يوازي ٣٠٠ ألف دولار على سعر ١٥٠٠ ليرة للدولار الواحد، حتى إن هذا التحويل حصل عبر القنوات الرسمية وغير مخالف للقانون أو لأي تعميم لمصرف لبنان.
✔ إذا سدد قرضاً، وفق القانون وعملاً بتعاميم مصرف لبنان ذات الصلة، بقيمة ٣٠٠ ألف دولار على سعر ١٥٠٠ ليرة للدولار الواحد
✔ إذا استفاد من منصة صيرفة، التي وفرها له، لصاحب الحساب، مصرف لبنان لتأمين دولارات بسعر صرف مدعوم عملاً بأحكام التعميم الأساسي رقم ١٥٧، بمبلغ ٧٥ ألف دولار.
✔ إذا استفاد (في السابق) أو يستفيد (اليوم) من التعميم ١٥٨.
ولن ينتهي أسلوب الترهيب في صياغة هذا التعميم عند ذكر شروط التأهيل فقط، بل ذهب بعيداً إلى التنبيه من المخالفات التي قد يرتكبها صاحب الحق الاقتصادي للوديعة. انتبهوا إلى جملة "في حال كان هناك مخالفات من قبل صاحب الحساب" - وعُرِفَ عنها في تجاوز سقف السحوبات، سوف تلجأ مركزية الحسابات إلى إبلاغ حاكم مصرف لبنان، وسوف يلجأ الأخير إلى تعليق استفادة صاحب الحساب بقرار من حاكم المركزي. لم يذكر نص التعميم كلمة "بالإنابة"، سقطت سهواً لأنه من الواضح أن من كُلِف بصياغة هذا التعميم اعتاد العمل مع رياض سلامة. كيف لصاحب الحساب، يا سعادة الحاكم، أن يخالف وأمواله محجوزة في المصرف من سنين. محجوزة بمباركة ومواكبة من كل السلطات!
لنعد إلى "بنك التوقعات"، من المؤكد أن أحداً لن يحصل على ليرة واحدة على سعر ٨٩٥٠٠ ليرة للدولار الواحد. مصرف لبنان على علم بذلك لأنه هو، وباعترافه في عدة محطات، الطرف الذي يؤمن السيولة للمصارف. وأيضاً نؤكد أن المصارف التجارية في لبنان غير قادرة على تلبية هذه السحوبات.
في المقلب الآخر والسؤال الأهم: هل تهدف هذه التعاميم إلى إحداث فتنة بين موظفي فروع المصارف والمودعين؟ لأنه هكذا كان تسلسل الأحداث خلال الفترة الأخيرة من حقبة الحاكم السابق سلامة:
1. حراك بين المركزي والمصارف،
2. تسريبات متعمدة لجس نبض الشارع،
3. توزيع أدوار بين الطرفين،
4. ارتفاع حاد في منسوب التوقعات من قبل أصحاب الودائع،
5. صدور التعميم دون المستوى المطلوب في نهاية الأسبوع،
6. إرتفاع حاد في التفسيرات والاجتهادات والسيناريوات من قبل الصحافة المتخصصة والإعلام المسؤول وينتحل كل واحد منهم شخصية صانع السياسات النقدية،
7. اندلاع النزاع بين المودعين والمساكين موظفي فروع المصارف التي مازالت تفتح أبوابها.
الأيام القليلة القادمة سوف توفر الجواب عن هذا السؤال! مع التأكيد أن الفاشل والفتنوي هي الطبقة السياسية الحاكمة وليس مصرف لبنان، ولا حتى المصارف. والأكيد هو أن الموظفين الذين يعملون في فروع المصارف مظلومون!
هل يوجد حلول ممكنة لهذه المعضلة؟
الحل الأنسب لن يكون بالاستمرار في تأمين السيولة الخجولة والتي لا تشفي غليلاً، بل تزيد من الشعور بالإحباط والإجحاف بحق المودعين. الحل يكون بإصدار تعميم (أو قانون) يسمح لأصحاب الحسابات المعنونة بالدولار المحلي بتحويل أرصدة حساباتهم (أو جزء منها؛ يجب أن يعود القرار لصاحب الحق الاقتصادي للوديعة) إلى الليرة اللبنانية على سعر صرف ٨٩٥٠٠ ليرة للدولار الواحد (أو أي سعر صرف رسمي يحدد بموجب قانون) شرط أن ينصرف مصرف لبنان إلى إدارة السيولة والحد من الاضطرابات التي قد تحصل بسبب غياب الرقابة. وتكون "قواعد الاشتباك" الجديدة على الشكل الآتي:
● استعمال الرصيد باللبناني عبر وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي (شيكات وبطاقات دفع وتحويل)، وعلى نقاط البيع (أي العمل بأحكام التعميم الأساسي لمصرف لبنان رقم ١٦٥)،
● أن يكون سقف السحب نقداً بالدولار الفريش لا يتعدى الـ 400 دولار شهرياً أو إيداع المبلغ في حساب مصرفي تحت أحكام التعميم الأساسي رقم ١٦٥،
● تسهيل استعمال حاجته (أي حاجة المودع) من رصيد حسابه بالدولار (المحلي) لتغطية فاتورة طبية أو تعليمية شرط تقديم المستندات ذات الصلة.
● تجميد العمل بالتعميم ١٥٨ وتحويل الرصيد المتبقي في الحساب الخاص المتفرع إلى حساب آخر يُفتح للعميل تحت أحكام التعميم ١٦٥. الحسابات تحت أحكام هذا التعميم هي أصلاً حسابات أرصدتها هي بالدولار المحلي.
المهم والأهم الحد من السحوبات النقدية للجم المضاربة في سوق القطع بالعملة الأجنبية، والعودة إلى ما يوفره القطاع المصرفي المقتدر (وليس بالضرورة كل مصرف وكل المصارف العاملة حالياً) من وسائل دفع، وإطلاق عجلة العودة إلى الشمول المالي بعد أن فُرغت المصارف من حساباتها المنتجة.