بالرغم من انشغال السلطة السياسية بأكثر من ملف في هذه المرحلة، فهي لم تنجح في طيّ ملف قانون موازنة 2024، التي لا تشبه أي موازنة في اقتصادات أي دولة في العالم أجمع، لما اعتراها من شوائب وفضائح وغياب للرؤية الاقتصادية والتخطيط الاستراتيجي، في مقابل تركيزها على المصاريف التشغيليّة وكيفية تمويلها فقط.
فعلياً، أصلحت لجنة المال والموازنة ما أمكنها في بعض بنود الموازنة، من دون التمكّن من ردّ الموازنة بأكملها لاعتبارات دستورية شتّى.
وقال رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان "إن مشروع قانون موازنة العام 2024 كما عدلته لجنة المال والموازنة ليس المشروع المثاليّ لموازنة الدولة... كما أن إقرار المشروع من دون إقرار الحسابات المالية كما تقضي أحكام المادة 87 من الدستور اللبناني يبقى وصمة على الحكومات المتعاقبة التي تمتنع عن إعدادها وتقديمها ضمن المهل الدستورية".
وفيما تقدم الطعون إلى المجلس الدستوري بعد المبادرة الأولى لنوّاب تكتل الجمهوريّة القويّة في 15 شباط، بتاريخ صدور الموازنة في الجريدة الرسمية، وحذو كتلتا تجدّد والكتائب حذوهم اليوم، بالإضافة إلى نواب آخرين، يصل عددهم إلى 10، بات من المتوقع أن يصدر قرار عن المجلس الدستوري، في 15 آذار، قد يقلب بعض المعطيات بعد حذف بعض البنود.
لم تمضِ 4 أيام على تقديم طعن تكتل "الجمهورية القوية" حتى سارع المجلس الدستوري في 19 شباط إلى تعليق مفعول الموادّ ٩٤/٩٣/٧٢/٤٥/٣٦/ من قانون الموازنة إلى حين البتّ بالمراجعة، علماً بأنه تمّ ربط أسباب الطعن بغياب قطع الحساب وفرسان الموازنة.
في الحقيقة، لقد دعا نواب التكتل إلى إلغاء جميع الموادّ الـ95 من موازنة 2024 بالكامل، بسبب عدم دستوريّتها، لأنّ الدستور اللبناني يُلزم الحكومة بتقديم تفاصيل مدققة ومصادق عليها لحسابات العام 2023 عند تقديم مشروع الموازنة العامة للعام 2024. وهذا ما لم يحدث أثناء مناقشة الموازنة.
ومن المعلوم أن الموادّ المعلّقة تشمل:
- المادة 93 التي تنص على إخضاع الأرباح التي نتجت عن عمليات صيرفة استناداً لتعميم مصرف لبنان الصادر بهذا الشأن لضريبة استثنائية.
- المادة 94 تنص أيضاً على إخضاع المبالغ الناتجة من سياسة الدعم، التي اعتمدها مصرف لبنان، لضريبة استثنائية.
- المادة 72 وتتعلق بالغرامات على المخالفين بشأن سداد الضريبة من شركات مساهمة وشركات أشخاص وشركات محدودة المسؤولية وأفراد وباقي المكلفين.
- المادة 45 تنص على فرض غرامات على مخالفة مبدأ الدخول إلى الشواطئ ومخالفة المراسيم التنظيميّة لهذا المبدأ.
- المادة 36 ترتبط بالرسوم البلدية على الوحدات السكنية وغير السكنية.
في المفهوم الدستوري، تعليق هذه المواد من قبل المجلس الدستوري يعني تجميد مفعولها؛ وبالتالي، لا يُعمل بها لحين الفصل النهائي في القضية.
وفي حال تمّ رفص هذه البنود، وتقرّر إبطالها، وكانت قابلة للتجزئة عن باقي بنود الموازنة، يكون الإبطال جزئياً ويطال الموادّ المرفوضة فقط. أما إن كان إبطال بعض الموادّ يؤدي إلى تعطيل كل قانون الموازنة فحينها يكون الإبطال كلياً.
العلّة في السلطة
على إثر الجدل، الذي شهدتهه عدّة منابر، والنقاشات المهمّة، ومن بينها الطاولة المستديرة التي أقامتها كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت في 28 تشرين الثاني 2023، في حرم الجامعة، بمشاركة عدد من فاعليات القطاع الخاص ووزارة الاقتصاد اللبنانية وصندوق النقد الدولي واتحاد المصارف العربية مع مجموعة من الخبراء الاقتصاديين، والتي أفضت إلى توصيات تركّز على أهمية إصلاح أداء السلطة لأنه في ظل غياب "قطع حساب"، من الصعب إعطاء ثقة للأرقام المدرجة في أيّ مشروع موازنة عامة، يجمع المراقبون في مجال الاقتصاد على الحقيقة الثابتة بعجز السلطة السياسية الحالية عن القيام بأيّ خطوة إصلاحية أو تصحيحية لإنقاذ البلد وأبنائه من تداعيات تدهور الوضع الاقتصادي؛ فالمشكلة الكبيرة والمزمنة تكمن في السياسة المتسلّطة وليست في الأرقام المجمّعة والمستعملة.
لقد تأخرّت الحكومة عن إقرار موازنة 2022، وصرفت من كل حدب وصوب من دون حسيب ورقيب، ثم قفزت إلى إقرار قانون موازنة 2024 من دون قطع حساب، مما يُثير الكثير من التساؤلات حول الأرقام التي اعتمدها مشروع الموازنة وُبني عليها لتحديد الإيرادات والنفقات لسنة 2024 بعد التجاهل التامّ لموازنة 2023. والأخطر من ذلك أنها طرحت موادّ جديدة في الموازنة، أثناء جلسة التصويت عليها، لم تتم مناقشتها من قبل، وصولاً إلى إصدار نسخة لموازنة 2024 في الجريدة الرسمية غير النسخة التي تمّ التصويت عليها في الهيئة العامة .
فما أهمية الموادّ التي علّق تنفيذها المجلس الدستوري؟
يثير قرار المجلس الدستوري بتعليق إقرار وتنفيذ الموادّ (36، 45، 72، 92، 93) تساؤلات ومخاوف جديّة بشأن الإيرادات الحكومية المتوقعة للعام المالي 2024.
وفي حين تأمل الحكومة في أن تساعد الإيرادات بالدولار على الحدّ من التضخم وتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، ثمّة خطر كبير يتمّثل بزيادة إفقار الناس وتفاقم الأزمة. لقد كان التضخّم في اتجاه تصاعدي منذ موافقة وزارة الاقتصاد والتجارة، وبدء المتاجر الكبرى بتسعير الموادّ وجميع نفقات الأسرة بالدولار الأميركي.
في موازنة 2024، زادت الضرائب بشكل ملحوظ. وفي بعض الحالات، وصلت إلى 40 مرة مقارنة بأرقام موازنة 2022.
سُجّل انخفاض حادّ في قيمة الليرة اللبنانية منذ العام 2022. وربما كان من أهمّ أسباب رفع الضرائب، وتخفيض حجم الإيرادات الملحوظة من جميع القطاعات بطريقة غير علميّة حتى لا يُقال خبيثة الحاجة الملّحة للحكومة لتعزيز إيراداتها بما يكفي لتغطية نفقاتها التشغيليّة.
وإن كانت النفقات الرأسمالية قد انخفضت أولوياتها في الآونة الأخيرة، فمن اللافت أيضاً أنّه كلّما زاد منسوب تقاعس الدولة عن تحصيل إيراداتها، ووقف الهدر وأعمال التهريب، توسّع حجم الاقتصاد غير الشرعي. وبالتالي، ازداد التهرّب الضريبيّ، وتراجع الاستثمار، وارتفعت البطالة، وتفاقمت المشكلة.
في غضون ذلك، الأسئلة كثيرة حول مصير ضرائب موجودة مثل الضريبة على القيمة المضافة التي يجب أن تدخل إلى الخزينة ما يناهز الـ3 مليارات دولار سنوياً!
في المقابل، بالرغم من الإعلان عن عدم مطابقة مسألة ربط الإيرادات الحكومية بالدولار الأميركي مع أعراف الدستور، فإنّ الحكومة، خلال صياغة الموازنة، لا يُمكنها تجاهل حقيقة مفادها أنّ القطاع الخاص قد تمّت دولرته على مستوى الإيرادات والنفقات.
في الواقع، إن عملية النهوض والتعافي الاقتصادي والمالي في لبنان ليست معقدة بقدر تعنّت الطبقة السياسية والتمسك بمصالحها الضيقة، وبرفضها للتغيير نحو الطريق السليمة المبنية على الإصلاحات في كلّ القطاعات وهو ما نحن بحاجة ملحة إليه.