د. رائد المصري
تنعقد قمّة منتدى الجزائر الدولي السابع للدول المنتجة والمصدرة للغاز، من 29 شباط إلى 2 آذار 2024، في ظل الدور الهام الذي تضطلع به البلاد على الساحة الطاقوية العالمية، وسياق يتميَّز بأهمية الغاز في الأمن الطاقوي، إذ يُعتبر تنظيم حدثٍ بهذه الأهمية في الجزائر، لكونها عضواً مؤسساً على الساحة الطاقوية الدولية كمنتج ومصدر موثوق للطاقة، حدثاً مفصلياً نظراً لما يمر به العالم اليوم من اضطراب في سلاسل التوريد، وتهديد أمن الملاحة الدولية وانقطاع الغاز الروسي عن أوروبا، بعد فرض سلسلة عقوبات غربية محكمة على موسكو، وعسكرة البحر الأحمر، وارتفاع تكاليف ونقل الطاقة، وحالة التضخم والركود الاقتصادي الذي أصاب العالم بشلل تام.
فالنظام الاقتصادي الدولي لم يضع موازين قواه بعد وهي غير ثابتة، ولم تنتظم علاقات الإنتاج الدولية الجديدة، في صيغة مقبولة على الأقل، ولم تستقر على حال في ظل الحروب المتعددة والمتنقلة، التي أصابت الشرق الأوسط بما يمثل من خزان طاقوي غازي ونفطي. من هنا ندرك أهمية انعقاد منتدى الغاز في الجزائر، الذي يعوَّل عليه في وضع الأسس لبناء اقتصاد عالمي محْكَم، يعتمد منطق سيادة الدول على ثرواتها ومقدراتها، وتنشيط ديبلوماسية الغاز والطاقة وتفعيلها، وتشكيل تكتل الدول المنتجة والمصدرة للغاز على غرار منظمة "أوبك بلاس"، حتى لا يُستفرد بالدول الصغيرة، ويتم الدخول على خط أزماتها الاجتماعية، للعبث بمقدراتها الطاقوية، والقيام باستقطابات دولية حادة مسيَّسة، تهدد الأمن والسلم الدوليين، بعد أن يتم حجب أو الإضرار بأمن الطاقة حول العالم كما هو حاصل اليوم.
وانطلاقاً من الحدث وتوقيته، تأتي الجزائر في المرتبة السابعة عالمياً في إنتاج الغاز، وهي مرشحة لأن تصبح الخامسة بعد قيام شركة "سوناطراك" بالعديد من مشاريع الاستكشافات لحقول غازية جديدة، حيث تمتلك الجزائر نحو 160 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي بالإضافة إلى إنتاج مليون ومئة ألف برميل نفط يومياً، بحسب بيانات "أويل أند غاز"، وهي أكبر مصدّري الوقود إلى السوق الأوروبية.
كما بلغ إنتاج الجزائر من الغاز الطبيعي نحو 7.86 مليارات قدم مكعبة يومياً، وهي وقعت اتفاقية مع مجموعة "سينوبك" الصينية، لإنشاء خزّان جديد للغاز الطبيعي المسال، بسعة تصل إلى 150 ألف متر مكعب.
فهذه المكانة الاقتصادية التي تمتلكها الجزائر، تعززها الطاقة الغازية التي تمثل الحاجة الملحة للصناعات الكبرى والاستهلاك المحلي، وبالتالي فإن الطلب على الغاز بكافة مستوياته وتحويلاته هو الوجهة العالمية اليوم، بعد أن أثبتت مادة الغاز قدرتها على التكيُّف في طرح الأسعار في الأسواق العالمية، التي يُعْمل بها كعقود آجلة لـ15 و20 عاماً، وهذا يعطي مادة الغاز الحيوية في التعاملات المستقبلية والأمن في الإمداد الطاقوي، خصوصاً أن العالم يتجه اليوم بقوة نحو الطاقات البديلة، والاستخدامات الملائمة للبيئة آمنة ونظيفة، والعمل ضمن ما يُسمّى مبدأ الاستدامة وعدم الإفراط في استخراجها بكثرة حفاظاً على بقائها للأجيال المقبلة.
أثبتت الجزائر قوتها الطاقوية، ومتانة اقتصادها، أولاً من خلال الاقتصاد المحلي وتوسيع نطاق الشفافية في التعاملات، وكشف ملفات الفساد والفاسدين وإسترجاع 30 مليار دولار من الأموال، عبر مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، وهذا أعطى الدولة المكانة والصدقية. وعملت الجزائر على مراجعة كل الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي بنداً بنداً على قاعدة: "رابح رابح"، وأطلقت سلسلة من التشريعات الداخلية تعزِّز فيها الصناعات المتوسطة والصغيرة، وخلق بيئة استثمارية آمنة وواعدة، وهي الدولة الوحيدة التي تكاد تكون بلا ديون داخلية أو خارجية في العالم، ولم يستطع صندوق النقد الدولي خرقها أو تكبيلها بأية قروض.
من هنا، انتقلت الجزائر لتوسيع مداها الحيوي، للعب دور إقليمي أكبر، نتيجة موقعها الجيوسياسي في شمال أفريقيا، فهي تمتلك طاقة قوية وبيئة نظيفة، لها حدائق خلفية لدول في وسط وغرب أفريقيا تمتلك كذلك طاقات غازية ونفطية، معظمها يمرَّر عبر الجزائر إلى أوروبا، التي باتت اليوم متعطشة لمصادر الطاقة، بسهولة من شمال أفريقيا ووسطها عبر الجزائر، وتمتلك بنية تحتية قوية، بتقنيات عالية الجودة في الاستخراج والتكرير وتسييل الغاز الطبيعي، وتوفير خزانات الاستيعاب، وهي التي ترتبط بأوروبا بأربعة أنابيب لتصدير الغاز إلى أسواقها.
فالجزائر، تعمل على رسم المستقبل الطاقوي، بخط دفاع عالمي عن الغاز الطبيعي، وخلق أرضية تعاون وحوار. ولذلك بدأت في تحقيق الأهداف المتعلقة بدعم الحقوق السيادية للبلدان الأعضاء على مواردهم من الغاز، لبناء رؤية تكاملية في الاقتصاد الطاقوي حول العالم، وتثبيت معادلات إنتاج للطاقة آمنة، لا تتهدد فيها سلاسل التوريد، بعيدة عن أي استقطابات دولية، ومحمية من الخروقات الخارجية للدول، التي تبحث عن مصالحها في موارد الثروة، لخلق بؤر وتوترات ونزاعات حول مصادر الطاقة في العالم، معتبرة أن منظمة "أوبك بلاس" بمثابة الأنموذج الحي، بمنع أي اصطفافات سياسية،لبقاء النفط وإنتاجه وتوريده وأسعاره خاضع فقط للعرض والطلب، وهذا ما تحاوله الجزائر اليوم، ببناء تكتل صلب يتبادل أعضاؤه الشراكة والتنسيق والخبرات والتقنيات، لدوام ثبات الاستقرار في الإنتاج والتوزيع والتوريد والتسعير.
ستشهد قمة المنتدى الدولي السابع للدول المصدّرة للغاز، مشاركة رؤساء دول ووزراء ومسؤولين كبار في البلدان الأعضاء، لإنشاء تكتل دولي واعد. ويبقى إعلان القمة الذي سيشكل الوثيقة – الحدث، لتتوضح فيه الأهداف والرؤية بجعل الغاز الطبيعي المورد الأساسي لتنمية شاملة ومستدامة، يعكس الرؤية والموقف المشترك للمنتدى، ودوره الطاقوي، وأهمية المنشآت الغازية والاستثمارات فيه، واعتماده كمورد طاقوي نظيف وموثوق، وتعزيز التعاون وإطلاق الحوار الفاعل، خصوصاً أن المنتدى سينظم النشاطات العلمية والتقنية وتنشيط الديبلوماسية الطاقوية حول العالم، وسيُدشّن مقرّ معهد أبحاث الغاز تابع للمنتدى، بعدما تم إنشاء معهد أبحاث الغاز لتسهيل التعاون التكنولوجي، والقيام بأبحاث لتطوير تكنولوجيا صناعة الغاز الطبيعي، وبما يُعنى بتطوير تكنولوجيات الصناعة الغازية.
فهذا المنتدى سيقوم بالدور الأكبر في تطوير ونشر وتحويل التكنولوجيات، لتحسين الفعالية والأداء البيئي لصناعة الغاز الطبيعي، عبر تطوير الشراكات بمراكز البحث العلمي، ودعم رؤية ومهام المنتدى كمدافع عالمي عن الغاز الطبيعي وأرضية للتعاون والحوار.
أخيراً، ما تشهده الجزائر اليوم، ربما يؤهلها لاكتساب وحجز مكانة إقليمية ودولية، لها ولتكتل الدول المصدرة للغاز في النظام الاقتصادي الدولي، القائم اليوم على ديبلوماسية الغاز والأمن الطاقوي، وهي سياسة جديدة منتهجة في علم العلاقات الدولية، فعملية تدشين مقر معهد أبحاث الغاز، تشكل مرحلة هامة للبلدان الأعضاء في المنتدى، للاستفادة من معارفهم وخبراتهم وأبحاثهم الجماعية، وتحليلها تحليلاً كاملاً في نشرات الأسواق الغازية العالمية سنوياً، وكذلك دور الغاز الطبيعي في الانتقال الطاقوي، والتوقيع على مذكرات تفاهم بين منتدى الدول المصدرة للغاز ومنظمات دولية وإقليمية هامة.