لم يكن أمام حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري غداة تسلّمه أمانة الحاكمية خيارات واسعة في اتخاذ قرارات حاسمة في الكثير من الملفات الشائكة، التي تقع على عاتقه منفرداً أو شراكة مع المجلس المركزي، بما يخدم الأهداف والدور الذي يضطلع به مصرف لبنان، خصوصاً في المرحلة الراهنة المشوبة بالأزمات.
من الملفات، التي واجهها الحاكم بالإنابة بداية، تقلُّص دور هيئة الأسواق المالية بسبب الانهيار المالي والنقدي، والمشاكل الإدارية التي كانت تعوق عملها وتفرمل نشاطها، وكذلك "الكلفة الباهظة" لرواتب نحو 45 موظفاً، منهم من يتقاضى بسبب اختصاصه وموقعه أجوراً مرتفعة.
لذا كان أمام مصرف لبنان ومجلس إدارة الهيئة خياران، إما الإبقاء عليها، بالرغم من نقص التمويل، بالإضافة إلى تقلص الإنتاجية والدور، وإما التوافق الضمني على قرار إقفالها ومنح العاملين فيها خيارَي الاستقالة الطوعية أو القبول بالاستيداع من دون راتب، وهو ما استُتبع بإصدار منصوري، بصفته رئيساً للهيئة، قرارين قضيا بوقف أعمالها ومنح العاملين فيها مهلة محدّدة للاستقالة أو للموافقة على الاستيداع.
بيد أن مراجعةً بهذين القرارين تقدّم بها إلى مجلس شورى الدولة عضو مجلس الإدارة الهيئة وليد القادري والأمينة العام نادين عبد النور وعدد من المستخدمين فيها، اعتبروا فيها أن قرار الإقفال تشوبه ثغرات قانونية عدّة ومخالفات لقانون الهيئة وصلاحيات مجلس إدارتها، وينهي بقرار إداري عمل مؤسسة منشأة بموجب قانون في المجلس النيابي، الذي تعود له وحده حصرية وقف العمل بالقانون أو تعديله، إلى اعتراضات عدة وردت في متن المراجعة.
قبل مجلس شورى الدولة المراجعة بالقرارين، وأبلغ المعنيين بالمضمون، وهو ما اعتبرته أوساط مصرفية خطوة إيجابية ومفيدة للأسواق المالية، حيث تحتاج هذه الأخيرة بشدة، خصوصاً في الظروف الراهنة، إلى وجود هيئة فاعلة، تمارس دورها الإداري بحزم، وتعزز الدور الرقابي لمؤسسات مصرف لبنان على الشركات والمؤسسات المالية العاملة على الأراضي اللبنانية.
قد يكون في أحد جوانب قراري مجلس الإدارة برئاسة منصوري التخفيف من مصاريف وتمويل مؤسسة، لا يُعادل ما تحتاج إليه إنتاجيتها، إلا أن مصادر في الهيئة تؤكد أن الهيئة تملك ما تحتاج إليه من تمويل في حساباتها، وهي قادرة على العمل والاستمرار من خلال المساهمات والعائدات التي تحصل عليها من المؤسسات المالية المنتسبة إلى الهيئة.
وكانت الجهة المستدعية تقدمت بوساطة وكيلها القانوني الدكتور باسكال ضاهر بمراجعة لدى مجلس شورى الدولة بتاريخ 24/1/2024، تطلب بموجبها وقف تنفيذ وإبطال القرارين الصادرين عن رئيس هيئة الأسواق المالية المتعلقَين بالتوقف الإداري الموقت لهيئة الأسواق المالية.
من الأسباب، التي وردت في المراجعة، أن القرارين صادران عن مرجع غير مختص. فالقراران أوقفا تشغيل المرفق العام المنشأ بقانون أصدرته السلطة التشريعية تمهيداً لتصفيته، فيما القانون الذي حدّد نطاق اختصاص وسلطة رئيس المجلس والمجلس، لم يولِ المجلس أو رئيسه أي صلاحية لوقف عمل الهيئة ولو موقتاً.
وفيما استند مجلس إدارة هيئة الأسواق المالية في قراره وقف الأعمال الإدارية إلى عدم موافقة الحكومة على تأمين اللازم لتغطية موازنة النفقات التشغيلية المرتقبة لهيئة الأسواق المالية، أشارت المراجعة إلى أن "نص المادة 26 من قانون الهيئة، الذي حدّد مواردها المالية، يبيّن أن الدولة تُعنى فقط، وحين تأسيس الهيئة، بأن تؤمن لها مساهمة مالية من الموازنة العامة، تخصّص لمرة واحدة فقط، وتالياً، فهي غير مطالبة بأي تمويل لاحق للتأسيس بغية تأمين استمرار عمل الهيئة، خصوصاً أن الموارد المالية للهيئة متعددة ومتنوعة. عدا عن ذلك، فإن هيئة الأسواق المالية تحوز الأموال الكافية التي تغطي كامل تكاليفها التشغيلية، علماً بأنه بالرغم من اطلاع المجلس ورئيسه على حقيقة حيازة الهيئة للأموال قرر المضيّ قدماً بالقرارين المطعون فيهما وحتى دون وجود موازنة.
وفي الأسباب، التي أوردتها الجهة المستدعية، أن مجلس إدارة هيئة الأسواق المالية ورئيسها لم يفعّلا تحصيل الإيرادات، فكان قرار وقف أعمال الهيئة وصرف مستخدميها من دون أن يُصار إلى إعدادها لمعرفة مدى توافر الأموال من عدمه، إذ إن رئيس الهيئة تغاضى عن القيام بصلاحياته التنظيمية، وأغفل إعطاء التوجيهات للأمانة العامة من أجل إعداد الموازنة، التي كان من المفترض أن تتمّ الموافقة عليها من رئيس المجلس ليقوم بدوره بإحالتها على المجلس بغية إقرارها.
أما مجلس إدارة هيئة الأسواق المالية فبرّر لمجلس الشورى قراره بأن موارد الهيئة اقتصرت منذ بدء عملها حتى اليوم على الرسوم والبدلات المفروضة على التراخيص والطلبات، وهي موارد لا تكفي لتغطية النفقات التشغيلية وتأمين رواتب وأجور العاملين فيها؛ ومردّ ذلك أن المورد الأساسي لتمويل هذه الهيئة الإدارية الناظمة المستقلّة هو الغرامات المنصوص عليها في القانون، علماً بأن هذه الغرامات تُفرض من لجنة العقوبات المنصوص عليها في المادة ١٦ وما يليها من القانون، وذلك تحت مراقبة المحكمة الخاصة بالأسواق المالية المنصوص عليها في المادة 21 وما يليها من القانون، فيما مرسوم التشكيل لم يصدر حتى تاريخه، بما اضطر هيئة الأسواق المالية إلى التوجه إلى مجلس الوزراء بغية تأمين التمويل اللازم. وتبعاً لرفض مجلس الوزراء لطلبها، أصبح لزاماً على مجلس إدارة الهيئة أن يتخذ القرار بالتوقف الإداري الموقت اعتباراً من 31/1/2024، علماً بأن هذا القرار اتّخذ في ظل ظروف مالية واقتصادية استثنائية لم تعرفها البلاد من قبل، وهي ظروف تشكّل بالنسبة للهيئة قوة قاهرة مكتملة العناصر كافة.
وإذ أكدت الهيئة أن القرارين المطعون فيهما لم يلغيا هيئة الأسواق المالية بل تضمّنا توقيفاً إدارياً موقتاً في انتظار تأمين تمويل للهيئة المذكور، اعتبرت أن "التذرّع بمخالفة مزعومة لمبدأ استمرارية المرفق العام ليس في محلّه، ذلك أن المستدعى بوجهها، وهي هيئة ناظمة ورقابية لم تكن تمارس فعلياً هاتين الوظيفتين بغياب كل من لجنة العقوبات والمحكمة الخاصة، اللتين تضطلعان بمهام أساسية، إن لجهة انتظام السوق أو لجهة الرقابة عليه. وتالياً، بعد أن رفض مجلس الوزراء التمويل، لم يعد أمام الهيئة سوى اتخاذ القرارين المطعون فيهما وقفاً لهدر المال العام من دون طائل، وأن ما تدّعيه الجهة المستدعية حول وجود أموال لدى الهيئة تكفي نفقات التشغيل فهو يحتاج إلى تدقيق من خبراء مختصين".
وبالنسبة للموظفين، أكد مجلس إدارة الهيئة أنه لم يتعدّ على حرّية المستخدم بل حفظ لهؤلاء حقوقهم وإمكانية طلب استيداعهم وإمكانية عودتهم إلى العمل، وأنه لا توجد في القضية الحاضرة أي عقوبة مقنّعة.
شركات مالية تسدّد اشتراكاتها
وبعد قرار مجلس شورى الدولة، أكدت مصادر الهيئة أن تمويلها سيفعّل، خصوصاً مع سقوط ذريعة الشركات والمؤسسات المالية التي يفوق عددها الـ60 بالتمنع عن دفع الاشتراكات السنوية، التي يجب أن تُسدّد قبل نهاية آذار المقبل. وتشير المصادر عينها إلى أن عدداً من الشركات بدأ بالتسديد. لكن أغلبية هذه المؤسسات ستنتظر كعادتها إلى أيام قبل انتهاء المهلة القانونية كي تسدد كالعادة. وأشارت إلى أن الرسوم التي تسددها الشركات والمؤسسات المالية هي وفقاً لعدد الخدمات المرخّصة لديها، إذ إنه يجب عليها دفع 300 مليون ليرة عن كلّ رخصة مالية استناداً إلى الجدول الجديد الذي نُشر في الجريدة الرسمية وعُمّم على كلّ المؤسسات والشركات المالية. وإذ قدّرت المصادر عدد الموظفين في الهيئة بنحو 45 موظفاً، أكدت أن أحداً لم يستقل بناءً على قرار مجلس الإدارة، نظراً لعدم البت بالحوافز المفترض أن يحصلوا عليها.
وفي انتظار بتّ مجلس شورى الدولة في حق مجلس الإدارة باتخاذ هذا القرار أم لا، تصرّ مصادر الهيئة على أهميّة عملها، خصوصاً حيال مراقبة أعمال المؤسسات المالية حتى لا تلقى نفس مصير المصارف؛ كذلك تشدّد على أن الأموال المتوافرة حالياً لدى الهيئة تكفيها لأكثر من سنة حتى وإن لم يبادر أي موظف إلى الاستقالة، لافتة إلى أن الجهود ستنصب بعد قرار مجلس الشورى على تفعيل عمل الهيئة وتوظيف مراقبين في وحدة الرقابة التي تعدّ عصب الهيئة، في مقابل تحفيز بعض الموظفين في الإدارة على الاستقالة الطوعية.