بنك عودة.
قال التقرير الأسبوعي لبنك عوده في جردته السنوية أن العام 2022 شهد مزيداً من التفلّت في سعر صرف الدولار في السوق الموازية على الرغم من كل التدابير الاستثنائية التي اتخذتها السلطات النقدية لضبط سلوكيته وعلى الرغم من الاتفاق المبدئي على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي في نيسان الماضي ورغم الحدث التاريخي الذي شهده لبنان في تشرين الأول المنصرم والمتمثل بتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية. كذلك، واصلت سوق سندات اليوروبوندز اللبنانية هبوطها الحرّ إلى مستويات دنيا غير مسبوقة، وظلت سوق الأسهم تسلك مسلكاً تصاعدياً بالدولار المحلي في ظل استمرار مساعي التحوّط تجاه الأزمات. في التفاصيل، ارتفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء بأكثر من 60% هذا العام حيث بلغ مستويات قياسية غير مسبوقة تجاوزت عتبة الـ40 ألف بعد أن كان قد أقفل على 27500 ل.ل. في نهاية العام 2021، مع انغماس البلاد في فراغين على المستوى الرئاسي والحكومي وانسداد الأفق السياسي وتضخم حجم النقد المتداول والتحرير الكامل لمنصة "صيرفة" من تمويل استيراد البنزين ورفع الدولار الجمركي بعشرة أضعاف والنزيف المستمر في احتياطيات المصرف المركزي. وعلى صعيد سوق الأسهم، استمرت مساعي المتعاملين في التحوّط تجاه الأزمات وتجنب أي اقتطاع على رساميلهم، ما انعكس زيادات لافتة في مؤشر الأسعار نسبته 37%، كما زادت أحجام التداول بنسبة 24% سنوياً لتبلغ زهاء 440 مليون دولار. وفي ما يخص سوق سندات اليوروبوندز، انحدرت أسعار سندات الدين السيادية إلى مستويات دنيا قياسية في ظل الوضع السياسي المأزوم والذي من المرجح أن يؤدي إلى زيادة التأخير في التوصل إلى اتفاق نهاني مع صندوق النقد الدولي وإجراء الإصلاحات الملّحة، ونتيجة التوقعات بنسب استرداد ضئيلة لسندات اليوروبوندز ما دون الـ20%.
وفيما خصّ آفاق العام 2023، قال الدكتور مروان بركات، كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث في بنك عوده لجريدة النهار، أنّ لبنان على مفترق طرق مع نهاية العام 2022 وبداية العام 2023، أمّا النهوض أو التدهور. ففي حال تحقّق السيناريو السياسي–الاقتصادي الإيجابي، يبدأ البلد بالنهوض من كبوته القاتمة محدثةً شيئاً من الاستقرار في الأسواق المالية. ويتمحور مثل هذا السيناريو الإيجابي حول انتخاب رئيس جديد للجمهورية في أسرع وقت وتشكيل حكومة كفؤة في وقت قريب، وحول اتفاق شامل مع صندوق النقد الدولي على أساس الاتفاق المعقود على مستوى الموظفين في شهر نيسان الماضي، وذلك بعد تأمين الشروط المسبقة لموافقة مجلس إدارة الصندوق. ويؤسس ذلك للحصول على مساعدات خارجية واستثمارات باتجاه لبنان. ويتعزز هذا السيناريو مع بداية التنقيب عن الغاز (بعد ان انجز اتفاق الترسيم) والذي في حال أتت نتائج التنقيب إيجابية يعزز عامل الثقة في الاسواق.
في حال تحقق هذا السيناريو الايجابي، يتوقع بركات أن يسجل الاقتصاد الفعلي نمو إيجابي يتراوح بين 4% الى 5% في العام 2023 يحركه الاستهلاك والاستثمار الخاص، ويستقر سعر صرف الليرة على مستوى قريب من المستوى الحالي وينخفض معدل التضخم الى مستوى مقبول ما دون ال30% بعد ان سجّل نسبة 160% في العام 2022، ما يؤدي إلى استقرار عام في الأسواق المالية.
أما السيناريو الآخر، فهو بقاء الوضع الراهن على حاله (الستاتيكو)، أي التأجيل المتواصل للانتخابات الرئاسية، وتعثّر تشكيل حكومة، وغياب الإصلاحات، وعدم الالتزام بمتطلّبات صندوق النقد الدولي وبالتالي غياب البرنامج النهائي مع الصندوق. ومن شأن هذا السيناريو أن يؤدّي الى مزيد من الركود الاقتصادي وانهيار شديد لسعر العملة الوطنية خصوصاً مع استنزاف مخزون العملات الصعبة في البلاد وفي ظلّ خلق زائد للنقد بالليرة اللبنانية وتضخّم مفرط في أسعار السلع الاستهلاكية وضغوطٍ اجتماعية-اقتصادية جمة على الأُسَر اللبنانية بشكل عام. في ظل هذا السيناريو المعاكس، يسجل الناتج المحلي الإجمالي نسبة نمو سلبية بعد أن تراجع حجم الناتج الحقيقي بنسبة 33% منذ بداية الازمة في العام 2019. أما سعر صرف الدولار فقد يتجاوز ضعف مستواه الحالي في ظل التخبط السياسي الاقتصادي ويسجل بالتالي التضخم في الأسعار نسبة مرتفعة تتجاوز ال100% للعام الرابع على التوالي مع ما يحمله كل ذلك من تدهور إضافي في الأسواق المالية بشكل عام.
في ظل تلك المفارقة، يأمل بركات أن يترفّع المسؤولون السياسيون عن مصالحهم الضيقة ويعززون القواسم المشتركة فيما بينهم ويحدون من نسب التباين والتجاذب ويلجون طريق التسوية والإصلاح.
الأسواق
سوق النقد: شهد العام 2022 زيادة لافتة في حجم النقد المتداول خارج مصرف لبنان بأكثر من 60% أو بما يوازي 29 ترليون ليرة، إذ ارتفع من 46 ترليون ليرة في نهاية العام 2021 إلى ما يقارب الـ75 ترليون ليرة في منتصف كانون الأول 2022. ومردّ ذلك إلى التضخم الملحوظ في حجم النقد المتداول منذ منتصف أيلول 2022 والذي ترافق مع ارتفاع في احتياطيات مصرف لبنان من النقد الأجنبي. ولكن للمفارقة أنّ هذا التضخم في حجم النقد المتداول ترافق مع ارتفاع في كلفة الكاش بالليرة في سوق النقد خلال العام 2022، حيث زاد من 5.3% في نهاية كانون الأول 2021 إلى 13.0% في نهاية كانون الأول 2022، نتيجة بعض الإجراءات التقنية المتخذة من قبل السلطات النقدية للجم بعض الشيء الآثار التضخمية لزيادة حجم النقد المتداول، علماً أن كلفة الكاش بالليرة كانت قد وصلت إلى مستوى قياسي نسبته 35% في نيسان 2022. في موازاة ذلك، أظهرت المجاميع النقدية أن الودائع المصرفية المقيمة تقلصت بقيمة 6311 مليار ليرة منذ نهاية العام 2021 حتى منتصف كانون الأول 2022، بشكل رئيسي نتيجة انخفاض الودائع المصرفية المقيمة بالعملات الأجنبية بقيمة 9037 مليار ليرة (أي ما يعادل 5994 مليون دولار وفق سعر صرف 1507.5 ل.ل.)، بينما سجلت الودائع المصرفية المقيمة بالليرة ارتفاعاً قيمته 2725 مليار ليرة وسط اتساع لافت في الودائع تحت الطلب بالليرة بقيمة 5715 مليار ليرة بينما انخفضت الودائع الادخارية بالليرة بقيمة 2989 مليار ليرة. أما الكتلة النقدية بمفهومها الواسع (م4) فقد اتسعت بشكل لافت حتى منتصف كانون الأول 2022 بنحو 25451 مليار ليرة نتيجة الزيادة الملحوظة في حجم النقد المتداول خارج مصرف لبنان.
سوق القطع: على الرغم من مرور عام كامل على العمل بالتعميم 161 والذي أجاز للمصارف بيع الدولار النقدي للمودعين عبر منصة "صيرفة" وعلى الرغم من كل التدابير الاستثنائية التي اتخذها مصرف لبنان خلال العام 2022 لضبط سلوكية سعر صرف الدولار في السوق الموازية، واصل سعر صرف الدولار في السوق السوداء تحليقه بشكل مطرد، كاسراً عدة حواجز، حيث قفز من 27500 ل.ل. في نهاية العام 2021 إلى 43300 ل.ل. في نهاية العام 2022، أي بارتفاع نسبته 58%. ويعزى هذا التدهور غير المسبوق في سعر صرف الليرة مقابل الدولار في السوق السوداء لأسباب عدة، منها الوضع السياسي الداخلي المأزوم، وعدم التوصل لصيغة توافقية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية أو تشكيل حكومة فاعلة، وعدم الالتزام بالأجندة الإصلاحية لصندوق النقد الدولي، ناهيك عن التضخم الكبير في حجم النقد المتداول بالليرة خارج لبنان بنحو 29 ترليون ليرة منذ نهاية العام 2021 حتى منتصف كانون الأول 2022. في هذا السياق، يجدر الذكر أن معامل الارتباط بين سعر صرف الدولار في السوق السوداء وحجم النقد المتداول خارج مصرف لبنان بلغ 64% خلال العام 2022. أضف إلى ذلك النزيف المستمر في احتياطيات مصرف لبنان من النقد الأجنبي والتي تقدّر حالياً بنحو 10 مليار دولار. إذ انخفضت الموجودات الخارجية لدى مصرف لبنان بمقدار 2.6 مليار دولار منذ نهاية العام 2021 حتى منتصف كانون الأول 2022، علماً أنها سلكت مسلكاً تصاعدياً منذ منتصف أيلول 2022. أما في ما يتعلق بمنصة "صيرفة"، فقد رفع مصرف لبنان مؤخراً سعر صرف الدولار عبر المنصة إلى 38000 ل.ل. ما أدى إلى تقليص الفجوة بين سعر منصة "صيرفة" وبين سعر صرف الدولار في السوق السوداء والتي كانت قد وصلت إلى مستويات قياسية في شهر كانون الأول الحالي بحدود الـ15000 ل.ل. وهذا يسهم في تخفيف الحاجة لضخ الليرات لتسديد رواتب القطاع العام، كما يسهم في التقليل من الطلب الاستيرادي للدولار عبر "صيرفة". في هذا السياق، يجدر الذكر هنا أنّ معامل الارتباط بين سعر صرف الدولار في السوق السوداء وسعر الصرف على المنصة بلغت 93% خلال العام 2022 بشكل عام، علماً أنها كانت قد تراجعت بشكل لافت منذ منتصف أيلول 2022.
سوق الأسهم: واصلت سوق الأسهم ارتفاعها الملحوظ خلال العام 2022، كما يستدل من خلال زيادة مؤشر الأسعار بنسبة 37.2%، والذي أعقب زيادة نسبتها 48.1% في العام 2021. ويأتي وذلك بخاصة نتيجة الارتفاع الكبير لأسعار أسهم "سوليدير" في إطار مبادرات التحوّط ضدّ الأزمة، علماً أن أسعار الأسهم مسجّلة بالدولار المحلي. في التفاصيل، قفزت أسعار أسهم سوليدير "أ " بنسبة 86.5% خلال العام 2022 لتبلغ 60.90 دولار في نهاية كانون الأول. وزادت أسعار أسهم سوليدير "ب" بنسبة 81.1% إلى 60.35 دولار. من جهة أخرى، سجّلت الأسهم المصرفية انخفاضاً في أسعارها بنسبة 9.1% في المتوسط خلال العام 2022. ويبيّن تحليل أكثر تعمّقاً للأسهم الإفرادية أن أسهم بنك عوده العادية وإيصالات إيداعه العمومية وأسهم بنك لبنان والمهجر العادية وإيصالات إيداعه العموميّة وأسهم بنك عوده التفضيلية من فئة " I" و”J”، وأسهم بنك بيروت العادية وأسهم البنك اللبناني للتجارة التفضيلية من فئة "D" وأسهم بنك بيبلوس العادية وأسهم بنك بيبلوس" التفضيلية 2008" سجّلت انخفاضاً في أسعارها تراوحت نسبته بين 2.3% و36.7% في حين شهدت أسعار أسهم بنك بيمو العادية ارتفاعاً بنسبة 9.1% في العام 2022. وعلى صعيد القطاع الصناعي، سجّلت أسهم شركة الإسمنت الأبيض اسمي" ارتفاعاً كبيراً بلغت نسبته 109.1% تلتها أسهم شركة " هولسيم لبنان" (+60.4%). وترافقت قفزات الأسعار الكبيرة في بورصة بيروت في العام 2022 مع تزايد تقلّبيّة الأسعار. فهذه التقلّبية، التي تُـقاس بنسبة الفارق المعياري للأسعار/متوسط الأسعار، بلغت 15.0% في بورصة بيروت في العام 2022 مقابل تقلّبيّة نسبتها 11.2% في العام 2021. وجاءت الرسملة البورصية في سوق الأسهم اللبنانية على غـرار ارتفاع الأسعار في البورصة، بحيث زادت بنسبة 37.2% في العام 2022، وتحديداً من 10625 مليون دولار أميركي في نهاية كانون الأول 2021 الى 14578 مليون دولار في نهاية العام 2022، علماً أن بورصة بيروت شهدت في الأول من تموز 2022 شطب أسهم شركة "ريمكو". وبلغت القيمة الإجمالية لعمليات التداول في بورصة بيروت 440 مليون دولار في العام 2022 مقابل 354 مليون دولار في العام 2021، أي بارتفاعٍ نسبته 24.2%، علماً أن أسهم سوليدير استأثرت بحصة الأسد من النشاط (95.2%) تلتها أسهم المصارف (3.9%) ثم الأسهم الصناعية (0.9%). ومن جرّاء ذلك، بلغ معدل الدوران الإجمالي في بورصة بيروت، والمقدَّر بحجم عمليات التداول السنوية/الرسملة البورصيّة، 3.0% في العام 2022 مقابل 3.3% في العام 2021.
سوق سندات اليوروبوند: واصلت أسعار سندات اليوروبوندز اللبنانية هبوطها الحرّ خلال العام 2022 حيث بلغت مستويات دنيا غير مسبوقة تراوحت بين 5.50-5.88 سنتاً للدولار الواحد في نهاية كانون الأول الحالي بالمقارنة مع 9.88 -10.63 سنتاً للدولار الواحد في نهاية العام 2021 وبعد انخفاضات حادة سجلتها في العام 2020 إثر تخلف الدولة عن دفع مستحقاتها. ويعكس هذا الهبوط في أسعار سندات اليوروبوندز انغماس البلاد في فراغ دستوري غير مسبوق وعدم تلبية لبنان لمتطلبات صندوق النقد الدولي بانتظار أن يصار إلى توحيد سعر الصرف من قبل السلطات اللبنانية، وإقرار المجلس النيابي لمشروع قانون وضع ضوابط رسمية على التحاويل المصرفية (كابيتال كونترول)، ومصادقة البرلمان على قانون طوارئ لإعادة إحياء المصارف ولكي يستعيد القطاع المصرفي عافيته، مع ما تحمله هذه الخطوة من تحديات في ظلّ الخسائر الجمة في القطاع المالي. في هذا السياق، أشار بنك الاستثمار العالمي Goldman Sachs في تقرير في نهاية العام 2022 إلى أنّه قد يستغرق الأمر أشهراً قبل تشكيل حكومة فاعلة في لبنان، وأنّه حتى في حال تم تشكيل الحكومة فإنّ قدرتها على تمرير متطلبات صندوق النقد الدولي في المجلس النيابي مسألة تحمل الشكّ. كما أشار إلى إنّ تدهور سعر صرف الليرة والغموض المستمر المحيط بالأوضاع الاقتصادية يجعل من تقدير قيم الاسترداد لسندات اليوروبوندز أمراً في غاية الصعوبة. وخلص Goldman Sachs إلى القول أنّه في حال تم التوصل إلى إبرام برنامج شامل مع صندوق النقد الدولي في العام 2023، فإن استدامة الدين تتطلب اقتطاعاً لسندات اليوروبوندز بنحو 80% في الأفق.