إيمان درنيقة الكمّالي
في خضم التطورات التكنولوجية المتسارعة، برز صراع مصيري جديد بين الولايات المتحدة والصين، وقد يحدّد مستقبل الهيمنة العالمية ومسار العالم، على الأقل في العقود المقبلة؛ هذه المرة في ساحة تكنولوجيا الكمّ.
فما هي تكنولوجيا الكمّ التي قد تغيّر وجه العالم؟ وما علاقتها بالذكاء الاصطناعي؟ وكيف استطاعت الصين أن تتفوق في مجال من مجالات تكنولوجيا الكمّ؟ ولماذا يشعر الأميركيون بالرّعب في الاختراقات الصينية التقنية المفاجئة؟
تكنولوجيا الكمّ هي مجال معقّد من الفيزياء يَعتمد على استخدام جسيماتٍ أصغر من الذرة، وعلى استغلال مبادئ ميكانيك الكمّ، لتطوير أدوات وأجهزة قويّة لها قدرات مذهلة.
وتعتمد تكنولوجيا الكمّ على "الكيوبت" بدلاً من "البت" كعنصر أساسيّ في الحسابات. فبينما يمكن للبت أن يكون إمّا صفراً أو 1 فقط، يمكن للكيوبت أن يكون في حالة صفر و1 في نفس الوقت، ممّا يمنح أجهزة الكمّبيوتر الكمّومية قدرة هائلة على إجراء حسابات معقّدة بسرعة فائقة.
تُستخدم تكنولوجيا الكمّ في العديد من المجالات، منها: "الحوسبة الكمّومية" التي تؤدّي إلى حلّ مسائل معقّدة، كفكّ التشفير بشكل أسرع بكثير من أجهزة الكمبيوتر التقليدية، و"الاستشعار الكمّومي" الذي يسمح بالكشف عن الأشياء بدقة عالية، ومن دون إشارة GPS، مثل الغواصات المختبئة في قاع البحار، و"الأنترنت الكمّومية" التي تؤمّن نقل المعلومات بشكل أكثر أمانًا وسرعة من الأنترنت التقليدية.
وتُعدّ هذه التكنولوجيا "ثورة علمية حقيقية" تُبشّر بمستقبل مليء بالإمكانيات الهائلة في كافة المجالات، بدءًا من علاج الأمراض المستعصية مثل السرطان والألزهايمر، إلى تطوير بطّاريات وأسمدة صديقة للبيئة، وصولاً إلى ابتكار أنظمة ذكاء اصطناعيّ فائقة القوة.
فإذا اعتبرنا ثورة الذكاء الاصطناعي بمثابة سيارة تعمل بوقود أجهزة الكمبيوتر الكلاسيكيّة، فسيكون استخدام أجهزة الحواسيب الكمّومية بمثابة تحويلها إلى صاروخ خارق. فمع قدرات الحواسيب الكمّومية الفائقة سنشهد قفزة هائلة في إمكانيات الذكاء الاصطناعي، ناهيك بإمكانيات ثوريّة لم نكن نحلم بها من قبل.
فما هي أهم إنجازات الصين في مجال تكنولوجيا الكمّ خلال السنوات الأخيرة؟
في خريف عام 2020، كشفت الصين عن مخططها الخماسيّ خلال اجتماع اللجنة المركزية الـ19 للحزب الشيوعي، بعد أن أطلقت العنان لطموحاتها الكمّومية. وقد ركّزت الخطة على تطوير سبع مجالات أساسية في العلوم والتكنولوجيا، أهمّها برنامج سريّ أُطلق عليه اسم "كوانتوم"، الذي انطلق في منشأة أبحاث ضخمة بمدينة "خفي" الصينية.
وقد حقّق برنامج "كوانتوم"، في غضون سنوات قليلة، قفزاتٍ مذهلة هزّت أركان العالم، وفوجئ الأميركيون والأوروبيون بالتقدّم الصينيّ المتسارع في هذا المجال، وباتت مخاوفهم من هيمنة الصين على تكنولوجيا الكمّ تتصاعد، خاصة مع إعلان شركة "أوريجين كوانتوم"، التي تأسّست عام 2017 على يد نخبة من علماء فيزياء الكمّ من جامعة العلوم والتكنولوجيا الصينيّة USTC، نجاحها في تحقيق إنجازات مذهلة كإطلاق أول خط إنتاج لرقائق الكمّ، ونظام تشغيل الكمّبيوتر الكمّي، وأول جهاز تحكّم للحوسبة الكمّومية. كذلك أعلنت عن ظهور الجيل الثالث من الكمبيوتر الكمّي الفائق التوصيل، الذي تنافس به شركة google و IBM الأميركية، وتطوير أهمّ حاسوب صيني Ushang 3، الذي استطاع أن يحلّ مسألة بالغة التعقيد في جزء من المليون من الثانية، وتفوّق فيها على أهمّ حاسوب أميركي "Frontier" الفائق التوصيل، الذي يحتاج الى وقت طويل نسبياً ليُنجز مثل هذه العمليّة.
وفي لقاء له مع علماء برنامج "كوانتوم"، وعلى رأسهم "بان جيانوي" الملقّب بـ"أبو الكمّ" أو "أبو الكوانتوم"، شبّه الرئيس الصيني "شي جي بينغ" هذا الصراع بتحدّي لعبة "غو" الصينية ذات البعد الاستراتيجي. واعتبر أن البحث في مجال الكمّ هو بمثابة قطعة متقدّمة على لوحة اللعب، تحدّد مصير الهيمنة على التكنولوجيا في المستقبل.
ومع الكشف عن برنامج "كوانتوم" ونجاح شركة "أوريجين كوانتوم"، اندلعت حرب ضارية بين الصين وأميركا على عرش التكنولوجيا الكمّومية.
وفي شهر تشرين الثاني الماضي، بدأت لجنة تابعة للكونغرس الأميركي التحقيقات مع شركة رأسمال الاستثماري الصينية Sequoia Capital، ومع عدّة شركات أخرى GGV Capital, GSR Ventures, Walden International, Qualcon بخصوص استثمار شركة الحوسبة الكمّومية، وأشباه الموصلات، وأنظمة الذكاء الاصطناعي، في وقت
أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن في شهر كانون الثاني، حالة طوارئ وطنية للتعامل مع التهديد بالتقدم الكمّي الصيني.
ووفق وثيقة صادرة عن وزارة العلوم والتكنولوجيا الصينية، أصبحت تكنولوجيا الكمّ أولوية قصوى للأمن القومي الصيني؛ لذا هي تسعى إلى تركيز الموارد عن طريق ضخّ استثمارات ضخمة في البحث والتطوير في مجال تكنولوجيا الكمّ، واستقطاب أفضل العقول والخبراء في هذا المجال من جميع أنحاء العالم، وتحقيق اختراقات تقنية هائلة تمكنها من الريادة في هذا المجال بحلول عام 2027.
في كلّ الأحوال، لا تزال تكنولوجيا الكمّ في مراحلها الأولى. لكن من الواضح أن التفوّق الصيني يشكّل تهديدًا خطيراً لمستقبل الولايات المتحدة التي قد تفقد هيمنتها على التكنولوجيا العالمية وتصبح عرضة للاختراقات من قبل الصين.
في النهاية، قد يُؤدّي صراع التكنولوجيا الكمّومية إلى حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين، إذ لا بدّ للولايات المتّحدة من أن تزيد استثماراتها في هذا المجال، وأن تسعى إلى التعاون مع الدول الأخرى، مثل الاتحاد الأوروبي واليابان، لتطوير تكنولوجيا الكمّ بشكل مشترك، إن أرادت أن لا تفقد هيمنتها على التكنولوجيا العالمية، وأن تسيطر على مستقبل العالم.
أستاذة جامعية - باحثة سياسية*