بعد الأزمة الاقتصادية شهدت المطاعم والملاهي موجة من الاستثمارات محلياً وعربياً، إلى جانب الابتكارات بالصناعات الغذائية، جميعها، عملت على الحفاظ على مكانة الخبرات اللبنانية في الأسواق العربية والغربية. فحتى مَن لا يعرف لبنان، لا بدّ من أن يعرف مطبخه الذي بات سفيراً لنا في العالم، بتصديرنا العلامات التجارية والأفكار المبتكرة والكوادر المهنية والمنتَج.
القطاع السياحي، بما يتضمّنه من مطاعم وفنادق ومقاهٍ ومنتجات وتصنيع غذائي، اجتمع في ملتقى"Horeca" السنوي في نسخته الـ28، جامعاً أقطاب هذا القطاع وخبراءه، ومقدّماً أنشطة متنوّعة وعروضاً، وسلسلة نقاشات بمشاركة أكثر من ٢٠٠ عارض باستضافة أكثر من ١٢٠٠٠ محترف ومشترٍ محلي ودولي يقدّمون ألفي منتج وخدمة.
في هذه المقالة، نتحدّث عن الخبرات اللبنانية في القطاع المطعمي والغذائي، ومكانتها في الأسواق الخارجية، ولا سيما العربية منها.
نماذج ناجحة
إيزابيل صليبا، منتجة حبوب، لكن الأزمة كانت فرصة لها لتقوم بنقلة نوعية في عملها وتدخل به الأسواق العربية والعالمية. كانت لها وزوجها مطاحن حبوب منذ عقود في البقاع. وجدا أنّ ما يقف أمام منتجهما للتصدير هو عدم كون البرغل اللبناني معقَّماً وتدخل في إنتاجه أيدٍ كثيرة.
لذلك جمعت صليبا بين الصناعة التقليدية ومعايير الإنتاج الحديثة العالمية ونافست حتى البرغل التركي. لهذه الغاية، استخدمت أول مطحنة أوتوماتيكية لإنتاج البرغل في لبنان عام 2020، في خطوة جعلت من البرغل اللبناني يحظى بمعايير إنتاج عالمية وأصبحت wfp العالمية تتزوّد من برغل صليبا، بدلاً من تركيا.
بعد نجاح هذا المعمل، صمّمت واستخدمت صليبا الشهر الفائت أول معمل أوتوماتيكي لتصنيع المغربية في العالم. والآن تصدّر منتجات باسمها، كما تصدّر منتجاتها لأسماء علامات تجارية خاصة إلى عدد من الدول العربية والأوروبية.
أمّا نقولا وجو أبي حنا، وريثا خمّارة أبو حنا في زحلة، فقد حلّا في المرتبة الأولى بين خمسة عشر متنافساً في مسابقة تذوّق النبيذ المعتمد على العنب العضوي واختيار الأفضل بين مشاركين قدموا من أنحاء فرنسا ودول مختلفة إلى منطقة Bourgogne. وقد نال أبو حنا من لجنة الحكّام لاتّحاد خبراء الخمور Oenologues في فرنسا، جائزة التميّز الذهبي المزدوج 2023 le prix d’excellence de “double gold” 2023.
كذلك منحت غرفة الزراعة في فرنسا شهادة تقدير وميدالية الشرف certificat d’appreciation و medaille d’or، لأبي حنا.
بعدما كانت تنتج بشكلها التقليدي منذ عقود، عمل الأخوان أبي حنا على إنتاج أفضل نبيذهم بجودة المعايير الدولية وإنتاج يراعي سلامة الغذاء، ما خوّلهما الدخول إلى أسواق جديدة خارج لبنان، بحسب حديث جو أبي حنا لـ"النهار".
صناعات غذائية تنمو بابتكار
هذان بعض من نماذج ابتكار اللبناني وتطوير خبراته في الصناعات الغذائية. وتقول مديرة البرامج في قسم الابتكار في شركة "Berytech" (الشركة الحاضنة للشركات الناشئة في لبنان)، لارا الخوري لـ"النهار"، إنّه بعد الأزمة الاقتصادية وانتشار كورونا، نمت الصناعات الغذائية في لبنان نموّاً كبيراً وباتت مجالاً أساسياً للشركات الناشئة والصغيرة والمتوسطة، لتطوير منتجات بمستويات عالية لتكون قابلة للتصدير، مع مراعاة أشكال التوضيب والتغليف الصديقة للبيئة والحديثة، والتي تحافظ على سلامة الغذاء.
وما بين 2019-2023 أصبح عدد الشركات الناشئة 983، والشركات الصغيرة والمتوسطة 1052.
كذلك للابتكار دور كبير في الزراعة، فعدد من الشركات الناشئة أدخلت تقنيات زراعية حديثة على إنتاجها. وبحسب الخوري، "معظم التصدير إلى الخارج هو من الصناعات الغذائية المبتكرة وهذا بحدّ ذاته ما يميّز المنتج اللبناني عن سواه في الخارج ويخوّله منافسة المنتجات العربية المحلية في أسواقها".
وفيما تسجّل الشركات الناشئة علاماتها التجارية لدى وزارة الاقتصاد، يلفت المدير العام لوزارة الاقتصاد، محمد أبو حيدر، في حديثه لـ"النهار"، إلى أنّ عدد هذه الشركات يزداد رغم الأزمة، وغالبية هذه العلامات تعود إلى الصناعات الغذائية والألبسة ومنتجات العناية. ويوضح أنّ معدّل صادرات لبنان ارتفع لأعلى مستوى منذ عام 2002، ووصل إلى أعلى معدّل صادرات إلى الاتحاد الأوروبي تخطّى 610 ملايين يورو في العام الماضي.
ويؤكد أنّ "الصناعة اللبنانية بألف خير وتتمتع بالمواصفات العالمية المطلوبة". وقد ارتفعت صادرات زيت الزيتون اللبناني ومشتقاته من 5,4 ملايين إلى ما يقرب من 14 مليون يورو. أمّا الأفوكا، فقد ارتفعت صادراته من 210 آلاف إلى 650,000 يورو.
قطاع المطاعم لا يزال سبّاقاً في المنطقة
ألين كماكيان، صاحبة مطعم "مايريغ" الأرمني الشهير في بيروت، تورد لـ"النهار" بعضاً من تجربتها في عالمي المطاعم والصناعات الغذائية، لكونها فتحت أخيراً خط إنتاج غذائي باسمها، ووسّعت فروع مطعمها في عدد من الدول.
"اللبناني معروف بابتكاره ومحبّ للحياة"، وبعد الأزمة، عاد إلى جذوره وإلى صناعة المونة، واستطاع إدخال المنتَج اللبناني مثل دبس الرمان وماء الورد إلى العالم العربي، ولا سيما دول الخليج. ويحظى المنتَج اللبناني بميزة ابتكاره، بحيث يدمج فيه المنتجون أحياناً بعض النفحات الأجنبية، وهي المنتجات اللبنانية الحديثة، ما يجعل العلم اللبناني ينتشر في العالم، ولا سيما إثباته لمكانته في الأسواق العربية. وبحسب كاماكيان، "أمام المنتَج اللبناني مجالات هائلة لأن يكبر بعد، ولا سيما في صناعة الأجبان والألبان في الدول العربية". وبحكم المعايير العالمية لسلامة الغذاء، يتأقلم ويتماشى المنتَج اللبناني مع هذه المعايير، فحتى مثلاً البقلاوة باتت تُصنع أحياناً بزيت جوز الهند بدلاً من السمن البقري.
وبالرغم من كل شيء، قطاع المطاعم لا يزال مدماك الاقتصاد في لبنان، سواء من استثمارات مطعمية للبنانيين داخل لبنان أو خارجه. كما أنّ نمط العيش اللبناني مطلوب في الخارج، ما يشكل حافزاً لمستثمرين لبنانيين ليفتحوا مطاعم في الخارج.
في السياق نفسه، يفيد المؤسِّس والشريك الإداري في شركة "هوداما" الرائدة للاستشارات، ناجي مرقص، أنّ "خبرات اللبنانيين بالمطاعم هائلة والكثير منها نصدّره إلى الخارج، سواء على مستوى الفنيين العاملين أو على مستوى المؤسسات التي تستثمر في الخارج".
وتتّخذ الاستثمارات اللبنانية في هذا القطاع في الخارج شكلين: إعطاء تراخيص امتياز لمؤسساتهم المحلية، أو توسيع نشاطهم المحلي في الخارج كمجموعات رائدة في هذا المجال، مثل مجموعة Addmind التي تحظى بأكبر عدد من الأماكن السياحية من الملاهي والمطاعم وغيرها، في لبنان.
ويشير مرقص إلى أنّ القطاع المطعمي في لبنان في تطوّر دائم على مستوى تطوير تراخيص الامتياز والعلامات التجارية، وقد حجز مكانه في المنطقة في السوق العربي، ولا سيما أنّ المطبخ اللبناني، بجميع أشكاله المتعددة، هو علم لبلدنا.
وشهد المعرض محطات طهو حيّة مع نخبة من الطهاة المحليين والأجانب العاملين في أبرز الأماكن السياحية في لبنان. ويقول الشيف محمد سلهب لـ"النهار" إنّ الشيف اللبناني بات سفيراً لأهمّ العلامات التجارية العالمية في قطاع المطابخ والمواد الغذائية في الخليج. وسلهب هو واحد منهم.
وأهمّ ما أوصل الشيف اللبناني إلى المنطقة العربية والعالم عاملان: "الأول أنّه يتكلّم باسم لبنان وبأصوله فنحن لا شيء دون هويّتنا". والعامل الثاني هو خبرته التي لا تضاهيها أيّ خبرة، فهو الشيف الوحيد الذي يجيد الطهو اللبناني والعالمي معاً وجميع المطابخ المتخصصة باحترافية، وهو أمر لا يجيده طهاة آخرون، إضافة إلى أنّ المطبخ اللبناني يصنَّف من أهم مطابخ العالم، ما جعل الشيف اللبناني قيمة مطلوبة خارج لبنان.
كذلك، الطاهي اللبناني يحسّن من مذاق الأطباق الأجنبية التي يطهوها كما هي الحال مع عدد كبير من الأطباق من الشاورما والكنافة والبيتزا والباستا وغيرها من الأمثلة التي يحترف في طهوها أكثر من طهاة منشئها.