باولا عطية
للمرّة السادسة على التوالي، منذ بدء دورة التشديد الحالية في آذار عام 2022، التي رفع خلالها البنك تكاليف الاقتراض بمقدار 525 نقطة أساس، مما جعلها الدورة الأكثر صرامة منذ أربعة عقود، أبقى الفيديرالي الأميركي على تثبيت أسعار الفائدة، بمعدل بين 5 و5.25 في المئة، بهدف تحقيق استقرار السوق وتحفيز النمو الاقتصادي بمختلف القطاعات، وكبح التضخم. وكان الفيديرالي الأميركي قد قرر في شهر حزيران من عام 2023، لأول مرّة منذ بداية أزمة التضخم في الولايات المتحدة، تجميد رفع نسبة الفائدة وعدم رفعها، لتجنّب دخول الاقتصاد الأميركي في مرحلة الانكماش.
ورغم تطبيق أكثر السياسات النقدية تشدداً في العقود الأربعة الأخيرة على مدار ما يزيد عن عامين، لا يزال عناد التضخم مستمراً في الاقتصاد الأكبر في العالم، حيث سجّل التضخم أعلى مستوياته منذ 40 عاماً، في حزيران 2022، ملامساً حاجز الـ9.1 في المئة. أمّا هذا العام، فوصل التضخم في أميركا إلى معدل سنوي قدره 4.4 في المئة في الأشهر الثلاثة الأولى من الربع الأوّل، مسجلاً ارتفاعاً من 1.6 في المئة في الربع الأخير من عام 2023، وهو أعلى بكثير من هدف الفيديرالي البالغ 2 في المئة.
وكان رئيس الفيديرالي الأميركي في مينيابوليس، نيل كاشكاري، قد اعتبر أنّ "تحرك التضخم في الربع الأخير بشكل جانبي يثير تساؤلات حول مدى تقييد السياسة النقدية"، موضحاً أنّ "تراجع ضغوط التضخم الذي شهدناه في النصف الأخير من عام 2023 قد توقف. والسؤال هو ما إذا كان تراجع التضخم لا يزال جارياً أم سيستغرق الأمر وقتاً أطول".
لا عودة إلى رفع الفائدة؟
وبناءً على ذلك، أعلن رئيس الاحتياطي الفيديرالي، جيروم باول، أنّ "الخطوة التالية للبنك المركزي لن تكون ارتفاعاً"، في محاولته لتهدئة الأسواق المالية، وطمأنة المستثمرين. لكن على ما يبدو، رياح باول لم تأتِ كما تشتهيه سفن المستثمرين، حيث لا يزال الغموض مسيطراً على مشهد الأسواق المالية، التي تنتظر الموعد الذي يبدأ فيه البنك المركزي دورة خفض جديدة للفائدة، التي ستكون الأولى منذ عام الجائحة. وسبب هذا الغموض والقلق المسيطرين على الأسواق، يعود إلى خوف المستثمرين من سيطرة السياسة على قرارات الفيديرالي الأميركي. فقبل أسابيع من اجتماع الفيديرالي، كانت الأسواق تراهن على خفض أول في حزيران المقبل، لكن الآن يستبعد المستثمرون أي انخفاض بالفائدة قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، المنوي عقدها في شهر تشرين الثاني، بخلاف ما صرّح به باول، حول أنّ "الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة لن يكون لها تأثير على قرارات البنك بشأن أسعار الفائدة، فصنّاع السياسات متوافقون على إبقاء الاعتبارات السياسية بعيدة عن عملية صنع القرار".
من جهة أخرى، يبدو أن المستثمرين فقدوا الثقة بتصاريح رئيس الفيديرالي الأميركي، الذي كان قد توقع في شهر شباط من العام الحالي، أن يجري بنك الاحتياطي الفيديرالي ثلاث تخفيضات في أسعار الفائدة هذا العام.
وعادت قضية استقلال المركزي الأميركي إلى دائرة الضوء، عندما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن حلفاء للرئيس السابق دونالد ترامب يعملون على صياغة مقترحات من شأنها السعي لتقويض استقلال البنك المركزي ومنح ترامب المزيد من النفوذ على البنك إذا فاز في الانتخابات المقررة في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني.
تثبيت سعر الفائدة لا يشكل خطراً على الاقتصاد
وفي هذا الإطار، اعتبر الخبير الاقتصادي جوزيف عازار، في حديثه لموقع "النهار العربي"، أنّ "قرار الفيديرالي الأميركي تثبيت أسعار الفائدة بين 5.25 و5.50 في المئة وعدم تخطيها حاجز الـ6 في المئة لا يشكل في الوقت الحالي خطراً على الاقتصاد العالمي"، شارحاً أنّه "في ظلّ الأزمات الاقتصادية، قد تتجه الدول الكبرى إلى رفع الفوائد وتقليص النفقات، في محاولتها كبح التضخم، إلا أنّ هذه الخطوات لم تعد قابلة للتطبيق في الـ2024، حيث إنّ سياسات رفع الفائدة "تهشّل" المستثمرين، لما يتكبّدونه من فوائد عالية على القروض. وما طبّق في أزمات الـ1980 والـ2008 قد لا يمكن تطبيقه في الـ2024 حيث إنّ أزمتنا اليوم هي أزمة الاقتصاد العالمي ما بعد جائحة كورونا التي بدأت في الـ2019".
أزمة الـ2008 vs الـ2019
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ أزمة الـ2008 بدأت بسبب عجز المواطنين الأميركيين عن تسديد قروضهم السكنية، ما أدّى إلى إفلاس عدد من المصارف، وهو ما انعكس على البورصة العالمية. أمّا أزمة الـ2019، فجاءت "بالعكس"، حيث زاد الطلب كثيراً على المنازل لترتفع الأسعار في ظلّ ضعف العرض، ما سبب تضخّماً عالياً.
ففيروس كورونا شلّ حركة الأسواق العالمية، والشحن، وضرب سوق العمل وسلاسل الإمدادات، ما أدّى إلى شحّ كبير في السلع، وفي ظلّ نقص المعروض وارتفاع الطلب من الطبيعي أن ترتفع الأسعار. ولكن ما سبب ارتفاع الطلب؟ الجواب بسيط، وتتحمّل مسؤوليته الحكومات في عدّة بلدان، التي لجأت إلى صرف مبالغ نقدية سخيّة للشركات والأفراد، في محاولتها مساعدتهم لاجتياز عوائق الجائحة، إلا أنها بالغت في ردة فعلها تجاه الأزمة الصحية والاقتصادية، وهو ما أدى إلى تكدس المدخرات لدى العائلات، مع تواصل حالة الإغلاق العام ومنع النشاطات التي يمكن خلالها إنفاق هذه الأموال.
هذه المعادلة جعلت المبالغ التي يتم ادخارها في الاتحاد الأوروبي ترتفع بنسبة 25 في المئة خلال فترة الوباء، أما في الولايات المتحدة فإن النسبة ارتفعت بفارق 30 في المئة عام 2020.
المطلوب استقلالية الفيديرالي
وتابع عازار: "نحن في مرحلة انتقالية اقتصادية بيئية، ورفع الفوائد يجب أن يشترط مع جذب رساميل لتحفيز الاقتصاد المنتج، وليس للمضاربة، فيما معظم حاملي هذه الرساميل يهدفون إلى المضاربة، لتحقيق أرباح أكبر، حيث إنّه ليس لديهم أيّ صلاحية لنقل رساميلهم من بلد إلى آخر، إلا إن كان هذا البلد سيعطيهم فوائد أعلى. وفي زمن نشهد فيه تضخماً وبطالة عالية جداً، مع تراجع للاستهلاك والاستثمار، من غير المقبول أن يعود الفيديرالي الأميركي إلى سياسة رفع الفوائد، أو الضرائب، فحتى الأخيرة، إذا تخطّت المعدّلات العالمية المعترف بها، قد تؤدّي إلى تراجع إيرادات الدولة، تحت شعار trop d'impôt tue l'impôt، أي إنّ الكثير من الضرائب يقتل الضريبة، وهو ما يدخلنا في تمويل غير منتج. والتثبيت اليوم لا يزال تحت السيطرة، إلا أنّ المطلوب أن يكون المركزي الفيديرالي يأخذ قراراته دون أيّ ضغوط سياسيّة، من الريوع، لتلبية مصالح خاصّة".
ولفت إلى أنّ "سعر الفائدة في الاقتصاد متغيّر هشّ. ولا يمكننا أن نبالغ في الاتكال على هذا المتغير، لأنه في اللحظة التي يفلت فيها سعر الفائدة من ضوابطنا، فإننا نسقط سقوطاً حراً".
2024 و2025 الأصعب على الاقتصاد الأميركي
من جهته، حّذّر الخبير الاقتصادي والمحلل المالي، نايل الجوابرة، في حديثه لموقع "النهار العربي"، من أنّ "إبقاء الفيديرالي الأميركي على أسعار الفائدة عند 5.25% قد يؤثّر كثيراً على أداء الشركات الكبرى، فعلى الرغم من أن هذا السعر ليس مرتفعاً جداً، لا يزال يُعتبر عالياً بالنسبة للشركات الضخمة وخصوصاً التكنولوجية منها، التي تستهدف تجديد قروضها أو أخذ قروض جديدة، حيث إن الكلفة الإنتاجية سترتفع، ما قد يؤدّي إلى تقليص العمالة، وتسريح عدد من الموظفين"، معتبراً أنّ "أسعار الفائدة هي قنبلة موقوتة بالنسبة للفيديرالي الأميركي، لا نعرف في أي لحظة قد تنفجر، فيما العامان 2024 و2025 سيكونان الأصعب، وسيحدّدان مصير مستقبل الاقتصاد الأميركي".
وبالفعل، عادت موجة تسريحات الموظفين للواجهة من جديد هذا العام في أميركا، حيث فقد أكثر من 90 ألف شخص وظائفهم في شهر آذار (مارس) الماضي، بأكبر وتيرة منذ كانون الأول (يناير) من عام 2023، وفقاً لتقرير جديد صادر عن شركة الخدمات المهنية "Challenger".
وكانت النسبة الأكبر من هذه التسريحات في قطاعي التكنولوجيا والقطاع الحكومي، فيما كان آخر هذه التسريحات المعلن عنها في شركة أمازون وخاصة في قطاع الحوسبة السحابية "AWS".
وشهد شهر كانون الثاني 2024، تسريح حوالي 23,670 موظفاً من قبل 85 شركة تكنولوجيا أميركية، وفقاً لموقع "Layoffs.fyi" .
ارتفاع الطلب على الفضة والذهب
ورأى الجوابرة أنّ "الفيديرالي الأميركي لن يتجه لأيّ خفض لأسعار الفائدة في عام 2024، ما قد يؤثّر بشكل مباشر على فرص الخريجين الاميركيين الجدد، بإيجاد وظائف في سوق العمل، ومن جهة ثانية، سيؤدّي قرار الفيديرالي إلى تزايد الطلب على الذهب، كاستثمار وملاذ آمن، حيث إنّ بنك الشعب الصيني زاد احتياطاته من الذهب للشهر الثامن عشر على التوالي في نيسان (أبريل)، على الرغم من تباطؤ وتيرة الشراء في مواجهة الأسعار القياسية. وبالتالي من الصعب أن ينخفض سعر الذهب تحت مستويات الـ2000 دولار للأونصة".
وكان بنك الشعب الصيني منذ فترة طويلة أحد أكبر المشترين في السوق، حيث زاد باطّراد حيازاته من السبائك منذ عام 2022. وفي نيسان (أبريل)، اشترى بنك الشعب الصيني 60 ألف أونصة وفقاً للبيانات الرسمية، وهذا يمثل انخفاضاً من 160 ألف أونصة في آذار (مارس) و390 ألف أونصة في شباط (فبراير). وخلال الربع الأول سجلت مشتريات البنوك المركزية في العالم بقيادة الصين أعلى رقم على الإطلاق وفقاً لمجلس الذهب العالمي.
"وإلى جانب زيادة الطلب على الذهب، بدأت الأسواق تشهد ارتفاعاً في الطلب على الفضة"، يقول الجوابرة، "حيث تترقب الأسواق أن يشهد العام الجاري أداءً رائعاً بالنسبة للفضة، ومن المحتمل أن تصل الأسعار إلى أعلى مستوى لها منذ عقد من الزمن. نتيجة استخدامه بكثرة في صناعات الطاقة البديلة".
وقال معهد الفضة في تقرير حديث إن من المتوقع أن يصل الطلب العالمي على الفضة إلى 1.2 مليار أونصة في عام 2024، وهو ما سيمثل ثاني أعلى مستوى على الإطلاق.
ما تأثير سياسات الفيديرالي على القطاع المصرفي؟
من جهته شرح الخبير الاقتصادي والمالي، نسيب غبريل، في حديثه لموقع "النهار العربي"، أنّه "خلال جائحة كورونا، كانت الفائدة على القروض 0 في محاولة الولايات المتحدة الأميركية مساندة الشركات والعائلات، وتحفيز الاقتصاد، ما أدى إلى ضغوط تضخمية عالية، ليسارع الفيديرالي الأميركي بعدها إلى رفع أسعار الفائدة في محاولته كبح التضخم، ولو على حساب النمو الاقتصادي، وأسعار سندات الخزينة الأميركية، حيث إنّ الأخيرة التي تعتبر أأمن استثمار في العالم، انخفضت كثيراً، ما سبب أزمة مصرفية العام الماضي، لدى سيليكون بنك ومصرفين آخرين. أمّا التباطؤ الاقتصادي فقد يكون مطلوباً لكبح التضخم، لأنّ النموّ الاقتصادي يسهم في زيادة التضخّم، مع زيادة الطلب، وارتفاع الاستهلاك".
وعن تأثير تثبيت أسعار الفائدة على المصارف الأميركية، أجاب غبريل، "بدأ الطلب على القروض يتراجع، نتيجة ارتفاع كلفة التسليفات والقروض للشركات والأفراد، مقابل ارتفاع كلفة الودائع، وبالتالي قد تنخفض أرباح المصارف، حيث إن الأخيرة تأتي من فارق الهامش بين الفوائد على القروض والودائع. كما تراجع الطلب على القروض السكنية، ما سينعكس تلقائياً على القطاع العقاري".
ولفت إلى أنّ "التوقعات كانت تشير إلى توجّه الفيديرالي الأميركي إلى أوّل خفض لأسعار الفائدة في آذار أو نيسان إلا أنّ ذلك لم يحصل. وكان قد صرّح المسؤولون الأميركيون بأنهم لم يتوصلوا بعد إلى مستويات خفض الفوائد المطلوبة، لتؤجّل التوقعات إلى شهر أيلول".
ونفى غبريل ما وصفه "بنظرية المؤامرة حول احتمال تأثّر قرارات الفيديرالي الأميركي بالسياسة الأميركية"، معتبراً أنّ "الفيديرالي يحافظ على استقلاليته لضمان مصداقيته".
ارتفاع في أسعار الذهب
وأمام حالة عدم الاستقرار التي تعيشها الأسواق، قد نشهد استمراراً في ارتفاع الطلب على المعادن الثمينة. ولذا، من المتوقع أن يشهد سعر الذهب نمواً ثابتاً على المدى الطويل. وقد وصل السعر إلى أعلى مستوى تاريخي له عند 2431.42 دولاراً في 2024-04-12.
وبحسب دراسة أجراها موقع lite finance، يتوقع معظم خبراء التحليل المالي ارتفاع سعر صرف زوج XAUUSD (الذي يرمز إلى الذهب مقابل الدولار الأميركي)، على أن يحطم المعدن النفيس رقمه القياسي السابق، حيث قد يتجاوز سعره حاجز 2,300 دولار في عام 2024. ومن المتوقع استمرار ارتفاع سعر الذهب خلال الفترة 2024-2030، وقد تصل الأسعار إلى أكثر من 4,000 دولار أميركي في السيناريوهات المتفائلة.