رولى راشد
عندما قررت إدارات المصارف العاملة في لبنان التوسّع وفتح الفروع في الداخل والخارج، لم يكن في حسبانها أنّ الزمن الرديء سيحلّ مستعجلاً عام 2019، مهدداً الثقة بالقطاع التي هي في أساس تكوينه ونجاحه وديمومته.
هناك مثل شعبي يقول: "لم تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر"، هي فكرة بديهية تقريباً. إلا أنّ قرار التوسّع بالعمل المصرفي لم يُبنَ على احتمالات المخاطر الموجودة في بلد كلبنان حيث الاستقرار السياسي والأمني فيه مهدّد منذ نشأته، ومرتبط قسراً بمحاور معظمها غير محليّ.
ومع انقضاء الزمن الجميل الذي كانت فيه "الليرة بخير وبتحكي"، والعمل المصرفي مشهوداً له بأدائه، والانفلاش بالفروع والتمادي في التوظيفات فيها ضرورة واستثماراً مربحاً، أتت الصدمة القاضية مع حجز أموال المودعين وترك مصيرها رهينة القرارات السياسية وأهواء بعض القيّمين على هذه المصارف.
كان من الطبيعي أن يسجل التراجــع في النشــاط المصرفــي تحضيراً لمرحلــة إعــادة الهيكلــة التي تبقى مجرّد تمنيات، إذ لجــأت مصــارف إلــى إقفــال فــروعها فــي الداخــل، وهي مستمرة في هذه العملية بحــثاً عن تقليــص حجمهــا عبــر دمــج الوحــدات المصرفيــة ضمــن المجموعــة الواحــدة، وتحويلهــا إلــى أقســام داخــل المصــرف الرئيســي. ثــم إنــه تحسّــباً لتعاميــم الاستحقاقات التــي تنتظرهــا المصــارف لناحيــة الســيولة والمــلاءة وتطبيقاً لتعاميم مصــرف لبنــان، اضطــرّ بعضهــا إلــى بيــع وحداتــه الناشــطة فــي الخــارج.
اذاًمن الواضح أن المصــارف تسعى إلــى خفــض الكلفــة التشــغيلية بعــد:
1- تراجــع أعمالهــا وأرباحهــا .
2- تســجيل خســائر تكبّدتهــا جــرّاء توظيفاتهــا فــي ســندات اليوروبانــدز وإيداعاتهــا لدى مصرف لبنان، فضلاً عــن الخســائر المتوقّعــة مــن محفظــة القــروض للقطــاع الخاص.
3- إعلان الحكومة اللبنانية التوقّــف عــن دفــع استحقاق الســندات فــي آذار 2020، ورفضها التفاوض مع حامليها.
وبناء على قرار التموضع الجديد، اضطــرّت المصــارف إلــى تســريح عــدد مــن العامليــن لديها، ومــن المرجّح أن يــزداد العــدد في غياب الحلّ السليم للقطاع بأكمله، ما يرفع عدد العاطلين عن العمل من جهة، ويشرّع باب الهجرة إلى الخارج من جهة أخرى بحثاً عن لقمة العيش.
ما هو المشهد اليوم في القطاع حيث يعيش من بقي فيه هاجس الاستغناء عن خدماته؟
حاج
رئيس اتحاد نقابات موظفي المصارف في لبنان جورج حاج يوضح لـ"النهار" أنّ "لا إحصاء سنوياً حيال عدد الفروع المقفلة، ولكن منذ بداية الأزمة عام 2020 حتى اليوم، جرى إقفال ما بين 200 الى 300 فرع، وبالتالي، كان هناك 1100 فرع فأصبحت في حدود 750 أو 800، مع ترقّب إقفال المزيد نهاية العام الحالي، إذا استمر الوضع الراهن ولم يُطرح الحلّ المقبول، علماً أن ذلك مرتبط باستراتيجية كل مصرف.
فعندما قررت إدارات المصارف فتح الفروع، كان الهدف تحقيق الربح. ولكن الأزمة راكمت الأسباب التي أنتجت ضرورة إقفالها ومنها:
1- زيادة حجم المصاريف التشغيلية في كل هذه الفروع، ما جعل بعضها عاجزاً عن تسديده بعيداً من مساعدة الإدارة العامة، خصوصاً أن هذه المصاريف ثابتة مرتبطة بعقود إيجار، رسوم كهرباء، تشغيل مكننة، قرطاسية...
2- تراجع حجم الأعمال في غياب عمليات فتح الاعتمادات بإستثناء الفريش منها. فقد تعثّرت طبيعة العمل المصرفي بعد تحوّل الفروع الى كونتوار للدفع والإيداع بالكاش فقط".
وعن معايير الصرف والتعويضات، يلفت إلى أنه "يبقى اليوم في القطاع في حدود 15 ألفاً فيما عدد الذين تركوا العمل يصل الى حدود 7 آلاف منذ بداية الأزمة. وبين هؤلاء 3 فئات:
الأولى، إقترب افرادها من سن التقاعد، فارتأت الإدارة تعويضهم المدة المتبقية لهم (بدل التقاعد المُبكر).
الثانية، فئة جرى الاستغناء عن خدماتها بعد تعويضها بموجب البروتوكول وبالتنسيق مع اتحاد نقابات موظفي المصارف.
الثالثة، حصلت على تعويض تخطّى قانون العمل اللبناني بموجب تفاهم حبي وشفهي، في بعض الأحيان، وصل الى 3 سنوات بدل الـ 12 شهراً المنصوص عنها في القانون.
أيضاً، هناك عدد غير قليل لا يمكن اعتبار أنه جرى صرفهم من دون تعويض مذكور في قانون العمل اللبناني، ولكن مع الاختلاف بأن تسديد بدل الصرف لهم كان بالفريش دولار أو ما يعادله بالليرة اللبنانية.
إضافة إلى ذلك، هناك فئة لم تعد تجد نفسها داخل العمل المصرفي في غياب الحوافز المقنعة، ومع أجور متدنية رغم الكفاءة، ما حتم الانتقال إلى قطاع آخر سواء داخل لبنان أو خارجه. في الواقع، منذ بداية عام 2023، تعتبر رواتب موظفي القطاع متدنية وهي بالليرة اللبنانية.
بطبيعة الحال، هذه التعويضات مهما بلغ حجمها تبقى غير محقّة، لأن من يترك المصرف يخسر التغطية الصحية التي هي 100 في المئة، وأيضاً بدل النقل ومنح التعليم".
صحيح أن الحلّ في القطاع لن يكون بمعزل عن حلّ الأزمة الاقتصادية بكاملها، ولكن سلوكه معبّد بتعنّت السلطة لاعتبارها أن الفجوة المالية هي خسائر وليست التزامات على الدولة، خلافاً للمادة 113 من قانون النقد والتسليف التي تقول إن "وزارة المال هي المسؤولة عن تغطية الخسائر السنوية لمصرف لبنان" الذي بدوره استعمل أموال المودعين لدى المصارف. وبالتالي، لا قيامة للقطاع من دون استعادة ثقة المودع والعميل.
من جهته، يرى الحاج أن على الجميع "الضغط على الحكومة ومجلس النواب لإيجاد حلّ عاجل لأزمة المودعين والمصارف. والمقصود بالجميع جمعية المصارف، اتحاد نقابات الموظفين فيها، النقابات العمالية، الهيئات الاقتصادية ونقابات المهن الحرّة. كفى استخفافاً بموضوع الودائع والتغاضي عن انهيار القطاع المصرفي الذي لن يستعيد عافيته إلا بعد استعادة ثقة المودع ضمن سياسة واضحة تعيد الودائع على اختلافها إلى أصحابها، وبعد الإقلاع عن معادلة ودائع مشروعة وودائع غير مشروعة".
لا شك في أن المصارف لها تأثير متعدّد الجانب على الاقتصادات الوطنية والعالمية. فلها دور بارز في توجيه التمويل والرأسمال إلى القطاعات الأكثر إنتاجية والتي تمتلك الأفضلية التنافسية، وبالتالي تعزيز النمو الاقتصادي والتوظيف. ولكن التحدّي البارز هو تأمين الإيرادات وهذا لن يكون سهلاً بمعزل عن ردّ الودائع الى أصحابها. ولكن متى يتخذ القرار الجدّي؟