خليل عجمي
من السابق لأوانه الحديث عن "اليوم التالي" بعد التاريخ الفاصل "7 أكتوبر" وتداعيات ما بعد هذا التاريخ، والشكل الذي سترتسم عليه المنطقة.
لكن هناك أسئلة مشروعة تطرح نفسها: هل شاخت معاهدة سايكس - بيكو؟ هل مشروع الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلّاقة ما زال ساري المفعول؟ هل مشروع تفتيت المنطقة إلى جيوب طائفية ما زال قائماً؟ أم أن "صحوةً" تراكمت فانتفضت للمواجهة، في وقت يدور الجدال حول مفاعيل هذه الصحوة وتوقيتها!؟
يقول محمد حسنين هيكل "إن من لا يرى مؤامرة في كل ما فعله الغرب في المنطقة منذ بدايات القرن الماضي، من وعد بلفور، وسايكس - بيكو، وإقامة اسرائيل، حتى الآن، فإنه لا يفرق بين التمرة والجمرة".
ولفهم الحاضر والمستقبل كان لابد من العودة إلى جذور الأحداث وتطورها، استناداً إلى بعض الوثائق والمعطيات والتصريحات المأخوذة من أفواه مسؤولين إسرائيليين أو أميركيين.
فالغرب الداعم لإسرائيل، سعى من خلال استراتيجية الاستثمار بالدين السياسي إلى تطويع الشعوب وتدجينها، فأشعل حروباً أهلية لتنفيذ مخططاته من دون أن يرسل جندياً واحداً إلى ميادين القتال، ليقينه أنه أياً تكن النتيجة، فهي مكسب له وتعزيز لمكانة إسرائيل في المنطقة.
وكان الغرب استخدم استراتيجية الدين، في حربه لمواجهة الاتحاد السوفياتي السابق، على قاعدة "الإيمان والكفر".
في 14 أيار 1948، تاريخ إعلان قيام "دولة" إسرائيل، أعلن ديفيد بن غوريون أن أمن إسرائيل يتحقق عندما تكون إسرائيل أقوى عسكرياً من أي تحالف عربي محتمل.
وباتت هذه الرؤية عقيدة إسرائيل الأمنية لعقود عدة... إلا أن عدداً من الاستراتيجيين الإسرائيليين رأوا لاحقاً أن هذه النظرية وحدها لا تكفي لضمان أمن إسرائيل، وأن ضمان هذا الأمن، مرهون بإضعاف المجتمعات العربية.
وفي شباط 2011 نشر الكاتب الأميركي مايكل كولينز بيبر مقالاً في موقع "أمريكان فري برس (American Free Press)، أشار فيه إلى بحث نشرته دورية "المنظمة الصهيونية العالمية" المعروفة "كيفونيم" بقلم الصحافي الإسرائيلي عوديد ينون، المرتبط بالخارجية الإسرائيلية، دعا فيه بوضوح إلى نشر الفوضى وإحداث انقسامات في العالم العربي إلى درجة "بلقنة" هذه الدول وتجزئتها إلى جيوب طائفية.
وكان هذا ترداد لأجندة طرحها بروفسور إسرائيلي هو إسرائيل شاحاك، تدعو إلى نشر الفوضى في الدول العربية، لإعداد المسرح في الشرق الأوسط للهيمنة الإسرائيلية.
هذه الاستراتيجية سبق وتحدث عن مثيلتها الأكاديمي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي قبل أن يصبح فيما بعد مستشار الرئيس جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي، في كتابه "بين عصرين: العصر التكنوتروني" (التكنولوجي – الإلكتروني) الصادر في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، والذي دعا فيه إلى هيمنة رجال الدين وإشعال حروب الأديان والطوائف، وتقوية التيارات الدينية التي لا ترى العالم إلا من زاوية الدين والخلافات الدينية.
وفي أحد تصريحاته يقول بريجنسكي: "ان منطقة الشرق الأوسط ستحتاج إلى تصحيح الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس - بيكو ومقررات مؤتمر فرساي.
وسبق لوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر أن صرح أن كل الأديان تواجدت في هذه المنطقة، ولا يمكن التعامل معها إلا من خلال الدين... أي أن اللعب على وتر الدين هو المدخل المناسب لتنفيذ المشاريع التي تصبو إليها الصهيونية العالمية.
وكان المستشرق اليهودي - الأميركي، البريطاني الأصل، بيرنار لويس، وضع مشروعاً يتحدث عن تقسيم الشرق الأوسط بكامله، بحيث يشمل تركيا وإيران وأفغانستان، وقد تمت الموافقة على هذا المشروع بالإجماع في الكونغرس الأميركي عام 1983.
وكان لويس قال عام 2005، إنه "من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، لذا يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها واستثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية فيها".
وفي البحث الذي كتبه الصحافي البريطاني جوناثان كوك عام 2008، كشف عن الدور الذي لعبته إسرائيل في إذكاء الصراع بين الحضارات، ومحاولة جعل تلك المقولة أساساً لنظرة العالم إلى مكوناته الأساسية ولا سيما البلدان الإسلامية.
وفي كتابه "إسرائيل وصراع الحضارات" كشف كوك محاولات إسرائيل استخدام مقولة صراع الحضارات لإعادة صياغة الشرق الأوسط بأكمله على نحو مواتٍ لمصالحها.
ويؤكد كوك أن الحرب الأهلية في العراق، ودعوات التقسيم التي رافقتها، كانت على وجه التحديد، الهدف الأول لغزو العراق، وأن هذا الهدف لم يُوضع في واشنطن، وإنما في مكان آخر على بعد آلاف الأميال، في إشارة إلى تل أبيب التي تعتبر أن الحالة العراقية التي تسودها الانقسامات الطائفية والدينية والعرقية، كانت تشكل المواصفات المثالية.
وبحسب التصور الإسرائيلي، "فمن يسيطر على العراق، يتحكم استراتيجياً في الهلال الخصيب، وبالتالي الجزيرة العربية، فضلاً عن موارده الضخمة".
وكان نائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني قال لآرييل شارون في حينه، إن "الولايات المتحدة هاجمت العراق أولاً، وقبل أي شيء، من أجل خاطر إسرائيل".
ويشير كوك إلى أن إسرائيل قررت منذ عام 1980، اتباع سياسة ملخصها: تقسيم كل شيء على الضفة الأخرى، أي في الجانب العربي، بداية من الفلسطينيين، ثم زحفاً وأحياناً ركضاً، إلى بقية الدول العربية، مضيفاً أن المحافظين الجدد كانوا يشاركون إسرائيل بقوة، بضرورة مواصلة هذه الاستراتيجية، لإلغاء أي دور لدول الشرق الأوسط، وإغراقها في مشكلات داخلية تعمّق من ضعفها.
ويتابع كوك أن الهدف هو بدء موجة من الصراع الطائفي انطلاقاً من العراق إلى كل المنطقة، وكان العراق مكاناً جيداً لاختبار هذه الاستراتيجية لأسباب عدة منها، أنه تمكّن في السابق من تحقيق وئام طائفي، وإعلاء راية الوطن على راية الطائفية، حيث كانت نسبة الزيجات المختلطة بين الطوائف المتباينة، هي الأعلى في الشرق الأوسط، وكان من الواضح أنه إذا نجحت تلك الاستراتيجية في العراق، فإن بإمكانها أن تنجح في أماكن أخرى.
ويقول كوك إن هدف إسرائيل من ذلك، كان إدخال العراق في دائرة الاضطراب الدائم، وزرع بذور شقاق طائفي إقليمي، ولاحقاً، إطلاق يدها بترحيل عرب 1948 من فلسطين إلى خارج أرض "إسرائيل الكبرى" بحجة أن الجميع في الشرق الأوسط، يبعدون بعضهم البعض على أسس دينية، وعرقية، "فلماذا لا تفعلها إسرائيل".
ويضيف كوك أن أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، أتاحت فرصة ذهبية لأصحاب هذه الرؤية، وجعلت الحديث عن صراع الحضارات وتفتيت الشرق الأوسط، يخرج من الهمس إلى العلن.
الحالة العراقية هذه وما يسودها من انقسامات مذهبية، موجودة في لبنان، وتم العمل بدأب، لنقلها إلى سوريا، لنشر الفوضى والتفتيت، مع الأخذ بالاعتبار أن السودان انفصل عن جنوبه مسبقاً، وأن الفوضى عمت ليبيا واليمن، بعدما عمت مصر وتونس، لكن لم تصل إلى غايتها.
إذاً، مخطط تفجير المنطقة بدأ من العراق، وهذا ما أوضحه النائب الأميركي جيمس موران بقوله: "إن اليهود الأميركيين هم المسؤولون عن دفع الولايات المتحدة الى الحرب على العراق".
وهذا ما أكده بدوره المفكّر الأميركي كولينز بيبر بقوله: "إن الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق، تندرج في مخطط إقامة اسرائيل الكبرى، وإن اللوبي اليهودي في الإدارة الأميركية، هو الذي كان يدفع بقوة واستماتة باتجاه الحرب".
وكانت الدعوات إلى إضعاف العرب وتقسيم المنطقة إلى كانتونات مذهبية، موضع تصورات استراتيجية لمعاهد البحوث الأميركية التي يسيطر عليها اللوبي الصهيوني مثل: مؤسسة التراث، والمعهد الأميركي لأبحاث السياسة العامة، ومعهد أبحاث السياسة الخارجية، ومعهد بروكنغز (Brookings Institute)، إضافة إلى العشرات من معاهد الدراسات الأخرى مثل: مركز فريمان للدراسات الاستراتيجية في تكساس، والمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي، ومعهد دراسات السياسة والاستراتيجية المتقدمة.
وطرحت هذه المعاهد على الدوام أهمية الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة، وإيجاد نظام إقليمي شرق أوسطي بدلاً من النظام العربي الحالي، وهو ما أكده طرح شيمون بيريز بعد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، عن قيام شرق أوسط كبير، ينسجم مع هذه الرؤى والاستراتيجيات الصهيونية.
وهذا ما رفعته أيضاً وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس عندما تحدثت عن ولادة شرق أوسط جديد في بداية عدوان 2006 على لبنان، وأعادت الحديث عن نظرية "الفوضى الخلّاقة"، إذ إن هذه النظرية هي مشروع طرحته معاهد البحوث الأميركية حتى قبل احتلال أفغانستان وانهيار الاتحاد السوفياتي، ثم أعادت رايس إثارة هذا المشروع من جديد والسعي إلى تحقيقه... وربما ما تشهده المنطقة اليوم هو إحدى ثمرات جهودها الهدامة!...
فهل تمكنت تل أبيب وواشنطن من تنفيذ هذا المخطط الجهنمي من خلال بوابة القوى الدينية المتعصبة والمتطرفة والتكفيرية، فضلاً عن كل من يُغذي الثقافة الطائفية بالقول أو الكتابة أو الفتاوى والخطابات والمقابلات!؟
يقيناً، أظهرت الأحداث التي واجهتها المنطقة على مدى عقود، والتي لا تزال تعاني من تداعياتها، أن الشعوب العربية الحية، وخصوصاً النخب الفكرية، أكثر وعياً بكثير من أن تتمكن إسرائيل وحلفاؤها من جرها إلى أتون هذه المحرقة... وحتى لو وُجد هناك قوى وتيارات ونخب وأفراد تسير في التيار الغربي - الإسرائيلي، عمداً أو جهلاً، لكن هذه، تبقى بالنسبة لشعوب الأمة، عبارة عن أسماك ميتة، والأسماك الميتة وحدها من يسبح مع التيار.