في المشهد العالمي، يؤدي الذهب دوراً فاعلاً في تحديد الاتجاه الاقتصادي، من خلال دلالات تُلقي بظلالها على محددات النمو. ومنذ بداية عام 2024، يتخذ المعدن الأصفر مساراً تصاعدياً ملحوظاً، فسجّل في أيار (مايو) الماضي أعلى مستوى له في 16 شهراً، عند عتبة 2450 دولاراً للأونصة. ويرجّح محللون استمراره في هذا الارتفاع، مع توقعات ببلوغ سعر الأونصة 3000 دولار في فترة 12 إلى 18 شهراً المقبلة، بحسب أحدث تحليل صادر عن "بنك أوف أميركا".
يردّ الدكتور بلال علامة، الخبير في الاقتصاد الدولي، التأثير الذي يمارسه الذهب في الأسواق العالمية إلى أنه "ملاذ آمن"، مضيفاً لـ"النهار": "ثمة معادن كثيرة قد يفوق سعرها سعر الذهب، ولكن... منذ إعلان الذهب في مؤتمر النقد الدولي ونظام بريتون وودز في عام 1944 معدناً ثميناً تُقيّم على أساسه أسعار العملات، صار قوّة اقتصادية لها مكانتها، وصار الاستثمار فيه آمنًا".
إلى ذلك، يُعدّ وزن الذهب مكيالاً عالمياً مقدّراً، إذ يكفل الذهب بقاء الثروة من دون تناقص، لأنه يحافظ على قيمته، بحسب علامة، "ودفعت عوامل أخرى مثل التوتر العالمي، والتشكيك في قيمة الدولار الأميركي بوصفه عملة تداول، وارتفاع المديونية الأميركية إلى مستويات غير مسبوقة، دولاً عدة إلى الإقبال على شراء الذهب، كالأرجنتين والصين، إلى جانب دول قد تكون عرضة للعقوبات الأميركية والاتحاد الأوراسي". وهذا رفع سعر الأونصة الصفراء إلى أسعار قياسية، علماً أنّ استمرار صعود هذا السعر مرتبطٌ دائماً بارتفاع الطلب.
يُضيف علامة: "علينا أن نتنبّه إلى مسألة جديدة، تزيد الضغط على سعر الذهب، وهو طرحُ دول ’أوبك+‘ ومجموعة ’بريكس‘ التعامل بالعملات المحلية في تبادلاتها التجارية. ويضاف إلى ذلك اعتماد العملة الرقمية وحيازتها نسبةً كبيرة من الاستثمارات"، محذراً من تخطي سعر الذهب حاجز 3000 دولار، "فحينها، نكون عند منعطف اقتصادي عالمي خطِر، ونعلم أن العالم يتغيّر كليًا".
ارتفاع متوسط وطويل الأجل
لكن، قبل أن نصل إلى هذا المنعطف، لافتٌ كان التصحيح السعري الذي تحقق في سوق الذهب، بعودة سعر الأونصة إلى 2324 دولاراً. ويشير الخبير الاقتصادي خالد رمضان، رئيس المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية في القاهرة، إلى هذا التصحيح متوقعاً أن ينخفض سعر الأونصة إلى 2300 دولار، "بسبب استمرار مجلس الاحتياطي الفدرالي في تشدده"، كما تعد بيانات التضخم عاملاً حاسماً بالنسبة إلى اتجاه الذهب على المدى القصير.
ويضيف رمضان لـ "النهار": "إن ارتفاع مستويات التضخم وقوة سوق العمل يمنحاننا انطباعاً بأن الاحتياطي الفدرالي لن يغير سياسته النقدية قريباً. لكن احتمال التيسير النقدي للفدرالي الأميركي قائم بقوة، وهذا يدعم الطلب على أسعار الذهب"، ناصحاً بالاستمرار في الاستثمار في المعدن الأصفر لأن الاتجاه "تصاعدي على المدى المتوسط، نتيجة أسباب موضوعية وفنية، منها زيادة مشتريات البنوك المركزية من الذهب، وتحديداً بنكي الصين والهند المركزيين، فهذه المشتريات رافعة رئيسية لأسعار الذهب".
على المدى الطويل، يرى رمضان إشارات دالة على استمرار هذا الصعود، "ومنها فورة النشاط الراهنة في صناديق تداول الذهب، والتي شهدت تدفقات إيجابية بلغت 529 مليون دولار لأول مرة منذ أيار (مايو) 2023، وهذا التوجه سيؤتي ثماره على المدى الطويل"، مذكراً بأن الذهب يظل استثماراً آمناً بكل المقاييس في الفترات العصيبة الحافلة بالمخاطر الجيوسياسية.
لكن، هل يمكن أن تصل الأونصة إلى سعر 3000 دولار؟ يفاجئنا رمضان بالقول: "لا، بل يمكن أن تصل الى عتبة 5000 دولار قبل نهاية عام 2026". إلا أن بلوغ هذا المستوى يتطلب الجمع بين الضغوط التضخمية، والشكوك الجيوسياسية، والانكماش الاقتصادي، وقيود العرض، ما يُنشئ عوامل مساعدة وبيئة مواتية لمسار تصاعدي إلى مستويات غير مسبوقة، "وسيُعد في حينه حدثاً فريداً"، على حدّ تعبيره.
الفضة أيضاً
هذا كله ممكن، لكن القاعدة الذهبية في عالم الاستثمار هي: "لا نضع البيض كله في سلة واحدة"، كما يقول محلل الأسواق المالية خالد جمال الخطيب، مضيفاً لـ"النهار": "الاستثمار الآمن هو الاستثمار المتنوع. وكما الذهب، الفضة أيضاً استثمار آمن، وجيداً على المدى الطويل، نظرًا إلى أسعارها المنخفضة حاليًا والطلب المستقبلي العالي عليها، نتيجة استخدامها في صناعة الشرائح المتكاملة التي تطلبها ثورة الذكاء الاصطناعي".
وفي ضوء "التصحيح السعري للذهب" الذي تناوله رمضان، يحثّ الخطيب على مراقبة مستويين من الأسعار مهمين لتحديد الاتجاه المستقبلي: "الأول، قد يؤدي كسر السعر دون 2280 دولاراً للأونصة إلى انخفاضٍ تالٍ، إلى نحو 2150 دولاراً؛ والثاني، يُعتبر كسر السعر فوق 2375 دولاراً فرصة جيدة لشراء الذهب، وربما نشهد عندها ارتفاعاً إلى أعلى المستويات على الإطلاق"، معلقاً أهمية كبيرة على ما يسميه "كسر المستويات السعرية"، قائلاً إن هذا يحتاج إلى محفز أساسي "مثل نسب تضخم عالية أو بيانات توظيف عالية أو توترات جيوسياسية جديدة".
بحسبه، ربما ينعكس ارتفاع أسعار الذهب انخفاضاً في أسعار الأسهم العالمية، إذ يحول المستثمرون أموالهم من الأصول الخطرة (سوق الأسهم) إلى الاستثمارات الآمنة (الذهب)، "فمنذ ارتفاع مستويات التضخم بعد جائحة كوفيد، وإشارة الاحتياطي الفدرالي الأميركي إلى رفع الفائدة في نهاية عام 2021، وبدء حملة هي الأشد عدوانية لرفع أسعار الفائدة في آّذار (مارس) 2022، شهدنا علاقة عكسية بين الذهب والتضخم. فمكافحة التضخم المرتفع برفع أسعار الفائدة تُترجم قوة في الدولار وضعفاً في الذهب".
وأوضح الخطيب أنّ سندات الخزانة الأميركية، وخصوصاً بعائد على 10 سنوات، هي ما ينافس الذهب، "فهي ملجأ آمن أيضاً، يضع فيه المستثمرون سيولتهم إن ساورهم عدم اليقين في الأسواق المالية". فعلى مر السنين، قامت علاقة عكسية أيضاً بين الذهب وسندات الخزانة الأميركية حيث يمكن المستثمرون اختيار الذهب أو سندات الخزانة الأميركية لحفظ رؤوس أموالهم، "ومع العائدات الحالية لسندات الخزانة الأميركية (لمدة 10 سنوات)، والتي تصل فوائدها إلى نحو 4.3 في المئة، نتيجة لرفع الاحتياطي الفدرالي الأميركي أسعار الفائدة، يمكن هذه السندات أن تحقق عوائد عالية، خصوصاً إذا قارنها المستثمرون بالعوائد في فترة الجائحة، حين انخفضت أسعار الفائدة إلى 0.5 في المئة في آّذار (مارس) 2020، وهذا أدنى مستوياتها تاريخياً".