في المشهد السياسي الفرنسي، تتميز الأحزاب بتوجهاتها الاقتصادية المتناقضة إلى أبعد حدود، والتي تعكس رؤاها وأيديولوجياتها. فحزب اليمين برئاسة مارين لوبّن وحزب الجمهورية إلى الأمام برئاسة إيمانويل ماكرون مثالان بارزان على هذا التناقض. فأيهما سيختار الناخب الفرنسي أخيراً؟
في ما يأتي نظرة فاحصة إلى سياسات الحزبين الاقتصادية:
1- خفض الضرائب:
يركز اليمين المتطرف على خفض الضرائب المفروضة على الشركات والأفراد، لتحفيز الاستثمار والنمو الاقتصادي. ويهدف هذا النهج إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتحفيز النمو الداخلي بزيادة الفائض النقدي لدى الأفراد والشركات.
تصور لوبّن نفسها، كما في انتخابات عام 2017، مرشحة القوة الشرائية، إذ تعد بتخفيض ضريبة القيمة المضافة على منتجات الطاقة مثل الوقود من 20 إلى 5.5 في المئة، وإلغاء الضريبة إياها على سلع أساسية معينة.
ربما يجذب هذا الطرح الكثير من الناخبين، خصوصاً بعدما ارتفعت أسعار المحروقات في أوروبا بنسب كبيرة، وبعد فقدانها أغلب الإمدادات التي كانت تأتي من روسيا عبر خطوط الأنابيب منذ عامين، وهذا فاقم أزمة التضخم، وسبّب شحّاً في المحروقات.
2- تقليص الإنفاق الحكومي:
تسعى لوبّن إلى تقليص حجم الإنفاق الحكومي وترشيده، مع التركيز على زيادة الكفاءة في تقديم الخدمات العامة، معتقدة أن ذلك يساهم في خفض العجز المالي، وتحقيق التوازن في الميزانية. في المقابل، يسعى ماكرون إلى تحقيق التوازن بالاستثمار في الابتكار والبنية التحتية.
تواجه 11 دولة أوروبية عجزاً في الميزانية يتجاوز عتبة 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي التي تسمح بها اتفاقية الاستقرار والنمو الأوروبية، وتأتي فرنسا في مقدمة هذه الدول، ما قد يعرّضها لغرامات مالية، خصوصاً أنها لا تخطط للعودة إلى الامتثال خلال السنوات القليلة المقبلة. وربما يكون عدم التزامها بداية مشوار طويل آخره تفكك الاتحاد.
في عهد ماكرون، احتلّت فرنسا المرتبة الثالثة بين الدول الأوروبية التي تخطى مستوى ديونها السيادية 60 في المئة، مسجلة 110.6 في المئة في نهاية 2023. وتوقعت وزارة المالية والاقتصاد الفرنسية ارتفاع الدين إلى 112,3 في المئة بنهاية عام 2024. وخفضت فرنسا توقعاتها بنمو الناتج المحلي الإجمالي من 1.4 في المئة إلى 1 في المئة مع تضخم عجز الميزانية الذي بلغ 44 مليار يورو في شباط (فبراير) الماضي.
3- تعزيز القطاع الخاص:
يشدد اليمين المتطرف على أهمية دور القطاع الخاص في دفع عجلة الاقتصاد، ويدعو إلى تحرير الأسواق وتخفيف القيود التنظيمية التي تعيق الأعمال والاستثمار، بينما يدعو حزب ماكرون إلى شراكات متوازنة بين القطاعين العام والخاص.
وتخطط لوبّن لإنشاء صندوق وطني جديد لتأميم بعض القطاعات الاستراتيجية مثل الطرق السريعة، واعدةً أن تعطى الشركات الفرنسية الأولوية في المناقصات العامة، لتستفيد المنتجات الفرنسية من مفهوم "الأفضلية الوطنية". إلا أن خبراء اقتصاديين يرون أنّ هذه الإجراءات الحمائية "تنتهك قانون الاتحاد الأوروبي"، فقاعدة الأفضليات الوطنية تعني أن تفرض الحكومة رسوماً جمركية على الواردات، وبالتالي فأن تلك الخطط ستؤدي في النهاية إلى خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي.
4- إصلاح نظام الضمان الاجتماعي:
يدعو اليمين الفرنسي المتطرف إلى إصلاح نظام الضمان الاجتماعي ليكون أكثر استدامة على المدى الطويل، وذلك برفع سن التقاعد وتعديل آليات توزيع المنافع الاجتماعية. ويلتقي اليمين بهذه النقطة مع خصمه الوسطي، حيث يتعهد ماكرون بشكل أساسي بمواصلة ما كان يفعله منذ عام 2017: إصلاحات موجهة نحو السوق. كما يخطط لزيادة تحرير سوق العمل، وخفض الضرائب على الأعمال، ورفع سن التقاعد إلى 65 عاماً، بدلاً من 62 حالياً.
تلقى هذه الخطوة، معارضة شعبية شرسة. فقد نفذ المواطنون سلسلة من الاحتجاجات المدنية في فرنسا في 19 كانون الثاني (يناير) 2023، اعتراضاً على مشروع قانون إصلاح المعاشات التقاعدية الذي اقترحته حكومة بورن، والذي من شأنه زيادة سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً. وأدت الإضرابات إلى اضطرابات واسعة النطاق، بما في ذلك تراكم القمامة في الشوارع، وتوقف وسائل النقل العام.
5- الابتكار والتكنولوجيا:
يُبدي حزب ماكرون اهتماماً أكبر بدعم الابتكار والتكنولوجيا، مقارنة بالحزب اليميني الذي يركز بشكل أكبر على تقليص القيود وتحفيز الاستثمار التقليدي.
6- الاستدامة البيئية:
يُعير حزب ماكرون الاستدامة البيئية أهمية كبيرة، في حين لا تعتبر هذه النقطة محورية في سياسات حزب اليمين. دعم ماكرون السياسات البيئية جعله يوافق على سلسلة من الاتفاقات البيئية لتقليص الانبعاثات الكربونية الناتجة من استخدام الديزل، وانبعاثات النيتروجين الناتجة من تربية المواشي، فيما تلحق هذه الاتفاقيات ضرراً كبيراً بالمزارعين الفرنسيين الذين أطلقوا سلسلة من الاحتجاجات حاصروا بها باريس، عرفت بـ"ثورة الفلاحين". وأضرت سياسات ماكرون لحماية البيئة بالدرجة الأولى الفئات الأكثر ضعفاً، فيما كان الأجدى أن تبدأ الدولة بتطبيق هذه الاتفاقيات على الشراكات والمصانع الكبرى، وعلى الجهات المسؤولة عن التجارب العسكرية والنووية التي تتسبب بالضرر البيئي الأكبر.