سجل إجمالي الدين العالمي مستوى قياسياً جديداً في الربع الأول من عام 2024، وبلغ 315 تريليون دولار، بزيادة 1.3 تريليون دولار مقارنة بأرقام الربع الأخير من العام الماضي، وفقاً لتقرير صادر حديثاً عن معهد التمويل الدولي.
وهذا الدين الدولي هو مقدار الأموال التي تقترضها الدولة من المقرضين الأجانب، أي من حكومات أخرى، أو مؤسسات مالية دولية مثل صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي، أو من كيانات القطاع الخاص مثل البنوك والمستثمرين.
في عام 2024، بلغ الناتج المحلي الإجمالي العالمي 109.5 تريليونات دولار، أي أكثر قليلاً من ثلث الدين العالمي. وبحسبة بسيطة، إذا قسمنا حجم الدين على عدد سكان الأرض الذي يبلغ نحو 8.1 مليارات نسمة، يكون دين كل واحد منا 39 ألف دولار.
إيجابية وسلبية
لمستويات الديون الدولية تأثيرات كبيرة، إيجابية وسلبية، على الاقتصادات الوطنية، اعتمادًا على كيفية استخدام الأموال المقترضة وإدارتها. يقول الاقتصادي قاسم دخل الله لـ"النهار" إنّ لآثار الإيجابية للاقتراض الدولي تكمن في تحقيق النمو الاقتصادي، بتطوير البنية التحتية، ما يعزز الإنتاجية الاقتصادية، "إضافة إلى الاستثمار في رأس المال البشري الذي يرفد سوق العمل بقوى عاملة أكثر مهارة وصحة".
يضيف دخل الله: "في فترات الركود الاقتصادي، يمكن الحكومات استخدام الأموال المقترضة لتحفيز الاقتصاد، والحفاظ على الخدمات العامة، ودعم شبكات الأمان الاجتماعي، كما يمكن أن يساعد الوصول إلى الاقتراض الدولي البلدان على إدارة الأزمات الاقتصادية بتوفير السيولة اللازمة لتحقيق استقرار الأنظمة المالية ومنع التخلف عن السداد".
على صعيد احتياطيات النقد الأجنبي، يمكن الاقتراض بالعملات الأجنبية أن يساعد في الحفاظ على احتياطيات كافية من النقد الأجنبي، وفي تحقيق استقرار العملة الوطنية ودعم التجارة الدولية، بحسب دخل الله، الذي يحذّر من المخاطر المحتملة لزيادة الديون الدولية، ويأتي في مقدمتها عبء خدمة الدين.
ويتابع دخل الله: "تؤدي زيادة مستويات الدين إلى ارتفاع مدفوعات الفائدة، ما قد يستهلك جزءًا كبيرًا من الإيرادات الحكومية، ويقلل من الأموال المتاحة للإنفاق العام على الخدمات الأساسية، وإذا لم تتمكن دولة ما من الوفاء بالتزامات ديونها، فقد تتخلف عن السداد، ما يؤدي إلى عواقب اقتصادية وخيمة وفقدان القدرة على الوصول إلى الأسواق المالية الدولية".
تأثير في المساواة الاجتماعية
إلى ذلك، يمكن المستويات المرتفعة من الديون الخارجية أن تؤدي إلى انخفاض قيمة العملة الوطنية، وزيادة تكلفة الواردات والمساهمة في التضخم، "ويمكن أن تؤدي الصعوبات المتصورة أو الفعلية في إدارة الديون إلى هروب رؤوس الأموال، حيث يسحب المستثمرون استثماراتهم من البلاد، مما يزيد من زعزعة استقرار الاقتصاد"، بحسب ما يقول دخل الله، مضيفاً: "ربما تدفع زيادة الديون الحكومات إلى اتخاذ تدابير تقشفية غير شعبية، كخفض الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية وغيرها من المجالات الحيوية، وهذا يؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية، ويرفع منسوب عدم المساواة الاجتماعية".
وربما يؤدي هذا إلى زيادة الحكومات الضرائب على المستهلكين لتوليد إيرادات إضافية لخدمة الديون، "وهذا يمكن أن يقلل الدخل المتاح والإنفاق الاستهلاكي، فيزيد من تباطؤ النمو الاقتصادي ويرفع نسب الفقر"، كما يلاحظ دخل الله، ما يمكن أن يؤجج الاحتجاجات العامة، كما رأينا في زيمبابوي والسودا وغيرهما.
العين على أسعار الفائدة!
يسهل الاقتراض من الدول المتقدمة نقل التكنولوجيا والخبرة إلى الدول النامية، ويعزز الإنتاجية والكفاءة الاقتصادية، ويرفد التجارة العالمية، ويوثق الترابط الاقتصادي، "لكن قد تجر المستويات المرتفعة من الاقتراض الحكومي ارتفاعاً في أسعار الفائدة بالسوق المحلية، وهذا يرفع تكلفة الاقتراض والاستثمار على الشركات الخاصة، فتقل استثمارات القطاع الخاص ويتراجع النمو الاقتصادي"، كما يحذر دخل الله.
الولايات المتحدة الأميركية خير دليل على ذلك. فبعدما تجاوز دينها العام عتبة 34 تريليون دولار، دخل في دورة تقشف قاسية منذ عام 2022، أوصلتها إلى تثبيت أسعار الفائدة عند السعر الأعلى، ما أدى إلى تباطؤ النمو فيها. وتبع ذلك انخفاض في الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي بنسبة اثنين في المئة، نزولاً إلى 1.3 تريليون دولار في العام الماضي، وفقًا لأحدث تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد".
ويتزامن ارتفاع الدين العالمي مع صعود أسعار الفائدة، خصوصاً على الدولار الأميركي إلى قمة 23 عاماً، عند مستوى 5.5 في المئة، إذ تشكل عملة الدولار أكثر من 70 بالمئة من مجمل الديون.
يوضح دخل الله أنّ الاقتراض على المستوى الدولي يمكّن البلدان من تنويع مصادر استثماراتها وتقليل اعتمادها على المدخرات المحلية، لكن.. "يمكن أن يؤدي الاقتراض المفرط إلى دخول الدولة في حلقة مفرغة، فتضطر للاقتراض أكثر كي تسدد ديوناً مستحقة، فينتهي بها الأمر تحت أعباء دين لا يمكن تحملها، إذ يضاف الدين إلى خدمة الدين، فتدخل البلاد في حال من عدم الاستقرار وتصاب بسلسلة من الأزمات المالية"، كما يقول دخل الله، مستشهداً بأزمات ديون أميركا اللاتينية في الثمانينيات، وأزمة الديون الأوروبية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
الدين والسيادة
إلى ذلك، ربما يقضي الدين على سيادة الدولة المدينة، إذ ترزح تحت ضغط الدائنين والمؤسسات الدولية لتنفيذ تدابير تقشفية وإصلاحات هيكلية، "وهذان الأمران يحدان من قدرة الدولة المأزومة على الاستجابة للصدمات الاقتصادية والاستثمار في الأنشطة المعززة للنمو"، كما يقول دخل الله، لافتاً إلى أن لبنان ومصر أبرز نموذجين لهذا الأمر، "فهما خاضعان لشروط صندوق النقد في مقابل التمويل".
وفيما يساهم الدين العالمي في تباطؤ الاقتصاد العالمي أو الركود، قد تحتاج منظمات إقراض دولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى تقديم الدعم للبلد المتضرر من الأزمة، وهذا يستنزف مواردها ويحد من قدرتها على الاستجابة للتحديات الاقتصادية العالمية الأخرى.
هذا ما دفع بصندوق النقد الدولي إلى التحذير من أن تفاقم الديون العالمية يشكل خطراً فعلياً على المالية العالمية. فهل تنجح الدول الكبرى في إعادة هيكلة ديونها وتسديدها، أم يتجه العالم نحو أزمة ركود اقتصادي جدية؟