في السنوات الأخيرة، صارت العملات الرقمية موضوعًا مهماً على الساحة العالمية، إذ جذبت اهتمام المستثمرين والمؤسسات المالية والحكومات على حد سواء. في العالم العربي، تتباين التشريعات والبيئات الاستثمارية المتعلقة بالعملات الرقمية بين دولة وأخرى، ما يعكس اختلاف الرؤى والسياسات الاقتصادية. فبعض الدول فتح الباب أمام الاستثمار في العملات الرقمية، فيما حذرت دول أخرى من مخاطر هذا الاستثمار مركزة على تقنية "بلوكشين".
في هذا الإطار، يقول عاصم جلال، استشاري العلوم الإدارية وتكنولوجيا المعلومات في G&K، لـ"النهار" إن المهم هو التفرقة بين تقنية البلوكشين وتقنية "الكريبتو"، مضيفاً: "البلوكشين تقنية مهمة جداً، استخدمت في الكريبتو لإلغاء الحاجة إلى مصرف مركزي، وهي تؤدي دور موزّع العمليات فتحلّ مشكلة تنظيمية كبيرة، إذ تثبت وقوع حدث ما من دون أي حاجة إلى جهة مركزية تثبت ذلك". فعلى سبيل المثال، إذا بيعَ عقارٌ ما، يحتاج طرفا معادلة البيع إلى إثبات عملية البيع في سجل جهة مركزية محددة، "فيما تلغي تقنية البلوكشين الحاجة إلى هذه الجهة المركزية".
الحذر دائماً
في العالم العربي، تعدّ المملكة العربية السعودية من الدول التي تفضّل التركيز على تقنية البلوكشين نفسها وتطبيقاتها في القطاعات المختلفة، بدلاً من تشجيع التداول في العملات الرقمية. وتتخذ المملكة نهجًا حذرًا تجاه العملات الرقمية. وفي الوقت الحالي، لا تشريعات سعودية محددة لتنظيم العملات الرقمية. إلا أن مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) تعمل على دراسة هذا المجال بعناية.
وحال الكويت مماثلة لحال السعودية في الحذر تجاه العملات الرقمية. فلم يصدر بنك الكويت المركزي بعد تشريعات واضحة لتنظيم التداول بالعملات الرقمية أو استخدامها في أي شكل من أشكال التجارة، لكنه أصدر تحذيرات للمستثمرين من مخاطرها المحتملة، مركزاً على تطوير بنية تحتية تقنية تسمح باعتماد البلوكشين في القطاعات المختلفة.
بدورها، تنضم قطر إلى نادي الدول التي تحظر التداول بالعملات الرقمية، فقد حظره مصرف قطر المركزي في عام 2018، مشيرًا إلى المخاوف المتعلقة بالأمان المالي وغسيل الأموال. مع ذلك، تُظهر الحكومة القطرية اهتمامًا متزايدًا بدمج تقنية البلوكشين وتطبيقاتها في الخدمات الحكومية والتجارة الرقمية، ويبدو أن قطر تسعى إلى الاستفادة من هذه التقنية من دون انفتاح واسع النظاق على التداول بالعملات الرقمية.
الأردن والعراق
وتتخذ الأردن نهجًا مشابهًا لقطر في ما يتعلق بالعملات الرقمية. في عام 2014، حذر البنك المركزي الأردني من استخدام العملات الرقمية، مثل البيتكوين. مع ذلك، ثمة مبادرات فردية وشركات ناشئة في الأردن، تبدي اهتمامًا متصاعداً بتقنية البلوكشين وتطبيقاتها المحتملة، وبدورها في تحسين الخدمات المالية والتجارية، ما يحث على تسريع الخطر لتطوير إطار تنظيمي يمهد الطريق لتبني أوسع للعملات الرقمية في المستقبل.
كذلك، يسير العراق حذرًا في فضاء العملات الرقمية، فمصرفه المركزي لم يسنّ تشريعات واضحة بشأنها، بل أصدر تحذيرات من مخاطرها. إلا أن ذلك لم يلغِ الاهتمام العراقي المتزايد بتقنية البلوكشين بصفتها وسيلة لتحسين الشفافية وكفاءة العمليات في القطاعين العام والخاص، ويمكن العراق أن يشهد تطورًا في هذا المجال إن رُسم إطار تنظيمي واضح ومستقر.
الإمارات والبحرين
كثيرة هي التحديات التي تواجهها الدول العربية في تنظيمها قطاع العملات الرقمية. يقول جلال لـ"النهار" إنّ المسألة تتوقف على ضعف التشريعات التي تسمح للأفراد باستخدام العملات الرقمية، وتنظيم عملية الاستخدام، فيما الاستخدام حاصل على المستويات الرسمية. ويضيف: "بعض المصارف المركزية، في السعودية والإمارات مثلاً، تبنت العملات الرقمية، ومنها عملة ’عابر‘ الرقمية التي تسمح بتبادل الأصول والاستغناء عن نظام المقاصة التقليدي الذي ينظم التعاملات التقليدية بين مصرف وآخر".
ولعلّ السبب الأبرز وراء ضعف التشريعات في هذا الإطار، بحسب جلال، هو عدم وصول الدول إلى صيغة تضمن لها مراقبة التعاملات المالية وإدارتها والسيطرة عليها، "وفي غياب هذه القدرة لن توافق معظم الدول على استخدام العملات المشفرة إلا مجبرة".
لكن، برزت مبادرات عربية متطوّرة في مجال اعتماد العملات الرقمية. فدولة الإمارات العربية المتحدة رائدة في المنطقة في هذا المجال. وقد أنشأت دبي "منطقة دبي الحرة للأصول الرقمية" لجذب الشركات الناشئة والمستثمرين في العملات الرقمية، كما أصدرت هيئة الأوراق المالية والسلع الإماراتية إرشادات لتنظيم التداول بالأصول الرقمية، ما يعزز الثقة في هذه السوق الناشئة.
تقف البحرين في صف الإمارات، إذ أنشأت "بيئة تنظيمية تجريبية" لتنظيم تقنية البلوكشين والعملات الرقمية، وأصدر مصرف البحرين المركزي لائحة لتنظيم الأصول الرقمية وتقديم التراخيص للشركات التي تعمل في التداول بها، ما يساهم في تعزيز الابتكار والاستثمار في التكنولوجيا المالية.
مراقبة صارمة
يقول جلال إن الاستثمار في العملات الرقمية يتمّ بشراء هذه العملات وبيعها في إطار تشريعي ينطبق على القانون الساري في الدولة التي تتم فيها عملية البيع والشراء. لكن معظم هذه العمليات يحصل على الإنترنت، والمجال الجغرافي لهذه المعاملات تحدده طبيعة الموقع وطبيعة المعاملة. ويجري العديد من المستثمرين في الدول العربية هذه التعاملات في الفضاء السيبراني الذي تخضع لتشريعات الدولة التي تحصل فيها عملية البيع أو الشراء. وبالتالي، إنها لا تحصل في الدول العربية.
يضيف: "يرى معظم المتخصصين في الاستثمارات في العملات الرقمية أن التعاملات بهذه العملة تعود إلى أفراد يطمحون إلى الربح السريع"، فالعملة الرقمية لا ترتكز على مؤشرات علمية تسمح بفهم سبب تحقيقها المكاسب أو تكبدها الخسائر، إنما تخضع لمشاعر المستثمرين، "مكاسبها غير مضمونة مبنية على مخاوف وأحلام".
مصر والمغرب
ولعلّ هذا هو السبب الأبرز الذي يجعل مصر تحظر الاستثمار في العملات الرقمية منذ عام 2018، معللة ذلك بالخشية من حالات خسارة واسعة تصيب بعض المغامرين المصريين، خصوصاً أن المعرفة بهذا النوع من التداول ما زالت في بداياتها، إضافة إلى الخوف من اختراق الأمان المالي ومن شيوع غسيل الأموال. مع ذلك، هذا الحظر اليوم قيد المراجعة، وثمة توجه نحو وضع إطار تنظيمي يمكن أن يسمح بالتداول بالعملات الرقمية في المستقبل، تحت رقابة صارمة.
أما المغرب، فصارم جداً حيال التعامل بالعملات الرقمية، منذ عام 2017، حين أعلن مكتب الصرف عن حظر هذا التعامل، وفرض العقوبات على المخالفين، خوفاً أيضاً من تورط في غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. ما زال هذا الحظر سارياً، إلا أن مبادرات مغربية عدة تبدي اهتمامًا متزايدًا بتقنية البلوكشين ودمجها في الخدمات الحكومية والتجارية، من دون التخلي عن مبدأ الصرامة في المراقبة والتدقيق، من خلال سن تشريعات قاسية.