في خطوةٍ تعكس تصعيداً جديداً في المواجهة الاقتصادية والجيوسياسية بين الصين والدول الغربية، أعلنت الصين أخيراً عن تشديد قبضتها على الإمدادات العالمية للمعادن الحرجة، وعلى رأسها معدن الأنتيمون (الإثمد).
ويأتي هذا القرار في إطار سعي الصين إلى تعزيز أمنها القومي، واستخدام نفوذها الكبير في سوق المعادن أداة ضغطٍ في الصراعات الدولية، خصوصاً في ظل التوتر المتزايد مع الولايات المتحدة وحلفائها.
ردّ مباشر
يمثّل تشديد التنين الأحمر قيوده على تصدير الأنتيمون والمواد المرتبطة به ردّاً مباشراً على الضغوط الأميركية والأوروبية المتزايدة. فقد سعت واشنطن وحلفاؤها في الآونة الأخيرة إلى تقييد وصول الصين إلى التكنولوجيا المتقدمة، خصوصاً الرقائق الإلكترونية التي تُعتبر أساسية في تطوير الذكاء الاصطناعي، ضمن استراتيجية أوسع لمنع بكين من تحقيق هيمنة تقنية عالمية. وفي مواجهة هذه التحركات، تستخدم الصين قوتها في سوق المعادن الحرجة، التي تُعد أساساً للكثير من الصناعات الحيوية، ورقة ضغطٍ مضادة.
"إنها حرب من نوع جديد". هكذا يصف الخبير الاقتصادي حســان خضــر المواجهة الصناعية – التقنية المستجدة بين الصين والغرب، مضيفاً لـ"النهار" أنها تأتي بعد حرب تجارية مع الولايات المتحدة، وحرب الرقائق وشركات الهواتف النقالة التي سمّاها "حرب المعادن".
ويشير خضر إلى كثرة التكهنات بشأن الدوافع الحقيقية وراء توجه الصين نحو تعزيز مخزوناتها من السلع والمعادن، وتحديداً الذهب، والآن الأنتيمون، فيقول: "ربما تفتح هذه الخطوة جبهة جديدة في الحرب التجارية بين الصين والغرب، أو تكون تعبيراً عن خشية بكين من تعرضها لعقوبات اقتصادية تماثل العقوبات المفروضة على روسيا إن عمدت إلى خفض قيمة اليوان مجدداً، أو غزت جزيرة تايوان".
تفوّق صيني
الصين أكبر مصدّر دولي لأكثر من 30 معدناً أساسياً، وتمتلك 56% من الإمدادات العالمية المستخرجة من معدن الأنتيمون، وفقاً لدراسة أجراها الاتحاد الأوروبي في عام 2023. لم يأتِ هذا التفوق في الإنتاج صدفة، إنما نتج من سياسات طويلة الأمد اتبعتها بكين لتعزيز سيطرتها على المعادن الاستراتيجية. ووفقاً للدراسة الأوروبية نفسها، تستغل الصين سيطرتها هذه لتحقيق أهدافها الاقتصادية والسياسية، خصوصاً في أوقات الأزمات.
إلى جانب الأنتيمون، تُعدّ الصين المورّد الرئيسي لمعادن حرجة أخرى، تعتمد عليها الصناعات المتقدّمة في العالم. وهذا النفوذ يمنحها قدرةً كبيرة على التأثير في الأسواق العالمية، ويمكّنها من استخدام مواردها أداةً للتفاوض والضغط في النزاعات الدولية.
مكوّن أساسي
الاحتياطيات العالمية من الأنتيمون محدودة، لذا متوقعٌ أن يؤدي فرض الصين القيود على تصديره إلى زعزعة استقرار إمداداته العالمية، تُترجم نقصاً في عرضه بالأسواق العالمية، وبالتالي ارتفاعاً في سعره.
تُقدّر شركة Project Blue الاستشارية العجز في سوق الأنتيمون بنحو 10 آلاف طن، في أيار (مايو) المنصرم. ومع دخول القيود الصينية حيز التنفيذ في أيلول (سبتمبر) المقبل، متوقعٌ اتساع هذا العجز بشكل أكبر، ما يرفع حدّة المنافسة على تأمين الإمداد تلبية للطلب المتزايد.
ما يزيد الطلب على الأنتيمون، بحسب خضر، هو الطبيعة الإنتاجية للعصر الحالي، والقائمة على التطور التقني الذي يمثل الأنتيمون مكوناً أساسياً من مكوناته. ويضيف: "إن العوامل الرئيسية المحركة لسوق هذا المعدن هي الابتكار التقني، والنمو السكاني، والوعي البيئي، والكفاءة مقابل التكلفة".
إلى ذلك، الأنتيمون معدن استراتيجي وحيوي في صناعات مختلفة، أهمها الصناعات العسكرية. فهذا المعدن يُستخدم في تصنيع الصواريخ الموجّهة بالأشعة تحت الحمراء، ونظّارات الرؤية الليلية، إضافة إلى دوره في صناعة الزجاج الكهروضوئي والخلايا الشمسية والمكوّنات الإلكترونية الدقيقة. بالتالي، أي اضطراب في إمدادات الأنتيمون يؤثر مباشرةً في هذه الصناعات الحيوية، ويرفع منسوب التوتر بين الدول التي تستخدم هذا المعدن الحرج في إنتاجها الصناعي.
تحدّيات مستقبلية
مع تشديد الصين قيودها على تصدير الأنتيمون، ستضطر الدول الغربية إلى البحث عن بدائل أخرى لتلبية احتياجاتها، وستجد ضالتها في دول مثل طاجيكستان (حصتها السوقية 25%) وفيتنام وميانمار. إلا أن حجم إنتاج الأنتيمون في هذه الدول لا يقترب من مستوى الإنتاج الصيني، لذا يبقى إيجاد بديل مستقر للأنتيمون الصيني تحدياً كبيراً تواجهه الصناعات الغربية.
ويتوقّع خضر أن تهيمن الدول المتقدمة، تحديداً الولايات المتحدة، على الطلب في الفترة المقبلة، تليها دول آسيا والمحيط الهادئ، وأن يؤدي ذلك إلى ارتفاع كبير في سعره. يقول: "على الرغم من ارتفاع سعر طنّ الأنتيمون بين عامي 2005 و 2024 بنحو 100%، إلى ما يزيد على 23 ألف دولار، فمن شأن تزايد الطلب عليه بسبب قيود الصين أن يرفع السعر إلى أكثر من 30 ألف دولار".
وهكذا، يعكس قرار الصين تقييد صادراتها من الأنتيمون تحولاً جديداً في صراعها الصناعي – التقني مع الغرب، ويضع العالم أمام تحديات جديدة لتأمين المواد الخام اللازمة للصناعات الحيوية. وإن أخذنا غياب البدائل في الحسبان، يسهل القول إن الأسواق العالمية مُقبلة على اضطرابات كبيرة.